بات من المسلمات خلق أساطير التأسيس الثقافية، لكل بلد عربي، بما يحدد نقطة البدايات الجامعة لتحولات عميقة على مستوى الإنتاج والتقنية، وما حسم ذلك ظهور تقنية التسجيل "الفونوغراف" والبث "الإذاعة" والعرض "التلفزيون" بينما لا ينكر استمرار توارث أو تناسي الفنون الأدائي والقولية والحركية، في أي بقعة عربية، على أقل تقدير، وعمليات الهجرة والتوطن أو آليات التطور والانقطاع. وفي الثقافة العربية، بما أنها وريثة شرعية لشقيقاتها الكبريات كالبابلية والآشورية والصغريات كالثمودية والنبطية ومتداخلة ثقافياً –على وهم انقطاعات الجغرافيا والتاريخ- مع شقيقاتها الحضارة النيلية والحضارة الأمازيغية، فهي تحفظ لنفسها خطاً زمنياً ومساحة مكانية كفلت لها عملية التوارث وآلية التلاقح وإعادة التنقيح. وتعد النقطة الفاصلة في هذا ليس التطور التقني من أجهزة التسجيل والبث بل فرض لغة غنائية دفعتها المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فتجيء الاستجابة الثقافية لتتمثل كل ذلك في صيغ أدبية وفنية. ويعد قالب "الأغنية" حاسماً في صناعة الغناء العربي واستمراره، على أن متطلبات الهوية الثقافية تنادي بعدها الحضاري، وهو ما حدث في استدعاء أشكال موروثة تعد النتاج الأمثل، أو الثقافة العامة، لها مثل القصيدة والموال والموشح غير أن الخط الموازي للنتاج العام، أو الثقافة الشعبية، يدفع بأشكال أخرى مثل أغاني ورقصات العمل والمناسبات "الأحداث أو الاحتفالات".. ومن هذه العناصر انطلقت مواهب عربية في تأسيس بداياتها الغنائية، وهي مسؤولة عن تكريس مراكز الغناء العربي المستقطبة للموهوبين الهواة والعاملين المحترفين، وتبدت عملية استظهار المراجع الثقافية وإخفاء بعضها الآخر. وفي الكتاب الجديد "زكي ناصيف: الموهوب العالم" 2016 للمؤرخ فيكتور سحاب، الصادر في مئوية الفنان الكبير، ما يحاول أن يتلمس خفايا الورشة الغنائية اللبنانية، فوضع مجموعة من الحقائق الأساسية، أولها بأن المرجعية الثقافية الشعبية تعود إلى الثقافة الشامية أو السريانية المتوارثة، وثانياً، المرجعية الثقافية العالمة تعود إلى الثقافة المصرية الحاملة في عناصرها توارث فن التجويد القرآني، وثالثاً المرجعية العلمية والمعرفية للأصول النظرية الموسيقية والآلية تعود إلى معلمين روس نقلوا إلى تلامذتهم اللبنانيين النماذج الموسيقية الأوربية والروسية معاً. ومن هذه الحقائق نشأ ما يسمى الفن اللبناني، ويمكن تكرار ذلك في مراكز عربية أخرى، فقد تحولت بيروت إلى بؤرة استقطاب فني أسهم فيها عناصر كثيرة من البلدان العربية والأوروبية والآسيوية. حضر ناصيف إلى واجهة المشهد الغنائي في بيروت عبر الإذاعة، والعروض الموسيقية تتوالى في مسارح صغيرة، فمع انتقال العائلة إلى بيروت 1922 وعمله مع والده في التجارة ثم وحده بين عامي 1939-1943، تعرف إلى أكثر من موسيقي فتعلم وتدرب بينهم منذ 1933 فتدرج تعلمه لآلة المجوز فالعود فالبيانو بشكل احترافي بين 1936-1938 في الجامعة الأميركية. واحترف العمل في إذاعة الشرق الأدنى عازفاً ومغنياً منذ 1953 وتعرف على مجايليه المبدعين مثل حليم الرومي والأخوين رحباني وسبقهم رفيق عمره توفيق الباشا، وأعد ألحاناً جميلة، مثل "دنياك يا أسمر"، و"يا عاشقة الورد".. وتألق مجد ناصيف في مهرجان بعلبك منذ 1957 فمنح أصوات وديع الصافي وصباح ونجاح سلام أجمل الأغنيات، وفي مهرجان الأنوار منذ 1960، وانطلقت بأصواتهم "طلوا أحبابنا" و"ايدي وايدك". وبعد 1965 سجل مجموعة من الأسطوانات بعضها أغنيات مستعادة بصوته وأخرى جديدة كتب معظمها بنفسه بالاشتراك مع شاعريه إميل رفول ومصطفى محمود، وعلى أنه وضع أغنيات عابرة للجيل اللاحق مثل غسان صليبا وماجدة الرومي غير أن ختام مسيرته الفنية يثمنها في أسطوانة "فيروز تغني زكي ناصيف" 1994. بعض المبدعين يضيء حضورهم ويشتعل في غيابهم كل جميل..