"انظر الموسيقى، اسمع الموسيقى. موسيقى الجسد هي أقدم موسيقى في تاريخ كوكبنا وفي نفس الوقت هي فن حديث متطور". تستقبلك الشاشات في مسرح Maison Des Métallos بالمنطقة الحادية عشرة بباريس. وذلك بمناسبة المهرجان العالمي الثامن لموسيقى الجسد، والذي تم تنظيمه عبر السنوات الماضية بمدن مختلفة بأنحاء العالم من أميركا لآسيا مروراً بأهم المحطات الأوروبية، ولقد حل لهذا العام 2016 بباريس للفترة 17-23 أكتوبر. ولقد تصافرت في عروض هذا العام جهود عازفة موسيقى الجسد الشهيرة ليلى بيترونيو LeeLa Petronio، مع جهود كيث تيري Keith Terry، المؤسس لمنظمة كروس بلس crosspulse، والتي تقوم منذ عام 1995 بتجميع ومزاوجة موسيقى الجسد التقليدية والخاصة بمختلف الشعوب وخلطها مع موسيقى جسد حديثة مبتكرة وتحويل الخليط لمنظومات فنية تعبيرية معاصرة، تنشرها الفرقة في طوافها بأنحاء العالم. كما تقوم المنظمة كروس بلس بتنظم ورش عمل بانحاء العالم وتدريب المعلمين وذلك سعياً لضم تلك الوسيلة التعبيرية الفنية للبرامج المدرسية وذلك لثبوت أهميتها في المعالجة النفسية، وبالأخص معالجة المعوقين، على المقاعد خلفنا كان عدد من المراهقين المعوقين أحضرتهم مدارسهم لشهود العرض. لم يلفتوا أنظارنا في البداية ، لكن وما أن بدأ العرض حتى دبت الحياة في المقاعد خلفنا، وخيل إلينا أن الاستعراضيين قد انتشروا بين صفوف المتفرجين مما أضاف عمقاً للعرض، إذا كانت الموسيقى التعبيرية تترجع في الصفوف خلفنا في هيئة دبيب أو هسيس، لكن لم نلبث أن أدركنا أن الجمهور خلفنا له طبيعة خاصة، إذ هم عبارة عن مراهقين معوقين انساقوا في العرض منفعلين بقوته التعبيرية، مذهلة استجابة أولئك المعوقين للموسيقى التي تصدرها أجساد الفرقة على خشبة المسرح، إنها موسيقى تشبه الأصوات التي لم تتكلم بعد في صدورهم، مثل صيحات الروح المحبوسة في هياكل أجسادهم العاجزة، في لحظة من لحظات العرض تصاعد التحام أصوات أولئك الطلبة بأصوات الفرقة، دق بالأقدام وتصفيق براحة اليد على أجزاء الجسد وعويل يختلط بغناء حناجر في شبه ابتهال لقوى غير منظورة تنبعث في المكان، لكأنما صار الفنانون الصوت المُعَبِّر في صدور المعوقين. إن ذلك العرض بحق لهو الرقص المسموع والموسيقى المنظورة. إنها وصلات موسيقية تحقق هدفاً تعليمياً بالإضافة لدورها الترفيهي المبهج. أنت نفسك تشعر لكأنما مررت بطقس تطهيري، طقس تنفيث للوجع المكبوت وللأحلام المحبطة من خلال السماح لجسدك أن يدق الأرض أو يصفع أطرافه بخفة أو يصفق أو يلهث أو ينوح. وتسمح لحزن أزلي أن يغسلك حين تظهر من بين الجمهور تلك الفتاة التي تناجي مجهولاً داخلك، لا تنظر حولها أو صوبك، إنما تنظر لداخلها عميقاً وتستنطق تلك اللوعة غير الآبهة، لوعة تتجاوز وعيك وتربطك لوجود يسبق الوجد الجسدي، وجود أبدي، تتنهد الفتاة لوعتها الحزينة ومباشرة في صدرك، "لم أعد خلف شمسك. أرني مجهولك. ليوم واحد أنا حرة، لك". فن موسيقى الجسد هو فن بقدم البشرية موسيقى يصدرها الجسد بسرية وبما هو أشبه بالابتهال في الفضاءات الوحشية البدائية أو تلك المتمدنة، تنبعث من استجابة الجسد للحقول والجبال والفيافي الشوارع والمساحات الخاصة، ولقد تم حديثاً تركيز الضوء على تلك الموسيقى الاستنطاقية وتضخيمها على المسرح لتصير وسيلة معترف بها من وسائل التعبير الفني المعاصرة. وهي تعتمد الجسد بصفته آلتها الموسيقية، كل طرف منه آلة، حتى ليصبح الجسد أوركسترا كاملة تصدر سيمفونيتها، يتواقع فيها كل مايصدر عن الجسد من تنهد أو تنفس أو تصفيق أو طرقعة أصابع أو طرق بالأقدام أو حك أو تذبذب لأوتار الحبال الصوتية، هي موسيقى مزيج من تنفيس عن مكبوت من مشاعر الفرح أو الغضب أو الحنان أو حتى التعب. سارة بيترونيو Sara Petronio راقصة التاب الأميركية والتي تبلغ السبعين يتقوض ظهرها بتلك الحركات المضخمة وتمارس رياضة التاي شي، وذلك لكي تؤجج طاقتها الروحية والجسدية وتواصل الظهور على المسرح مفعمة بالحيوية متحدية السن والتراجعات الجسدية، لكأنما أدمن جسدها ذلك الصراخ المنغم فلا تملك أن تكف. بدأ العرض الافتتاحي الذي حضرناه ليلة السابع عشر من اكتوبر بنعي اثنين من أشهر عازفي موسيقى الجسد، ويخيل إليك أنهما قد عزفا جسديهىا حتى الفناء، ولدرجة التلاشي. العازف الأشهر للجسد هو الأميركي كيث تيري، وهو راقص إيقاع وحركات الطرق، ومؤلف ومخرج موسيقي، بدأ حياته الفنية كعازف طبول بفرقة للجاز حين اكتشف قدرة جسده الموسيقية وقام بإزاحة الحدود بين العزف والرقص والغناء، كيث تيري هو ساحر بحق، فما أن يظهر على خشبة المسرح حتى يحول الجمهور لأوركسترا تعزف موسيقى جسده، موسيقى كونية تطفر من أجسادنا رغماً عن تحفظنا، بحركات إيحائية يحمل كيث تيري جسدك في آفاق فلسفية من السلاسة، تجد رئتيك تتمددان وتلفظان تلك التنهدات المفرغة لكل الإحباطات واللوعة، تنفثاها بتنغيم يتوافق وتنسيق ذلك المايستروا الاعجازي والذي يصفق أو يفرك راحتيه ويطرقع بأصابعه ويدق بقدمه ويجرجر قدميه أو يصفع مؤخرته، أو ينفخ على الجمهور مصدراً هسيساً يدعوه لترديده، هو كتلة من التعبيرات العميقة تستدرجك للمشاركة. فقرات بلا آخر من الإبداع تجعل الجو يتأجج بطاقة روحية عجيبة. وكخاتمة على بوابة المسرح يفاجئك الجمهور وقد تم استدراجه لتشكيل حلقة ضخمة حول كيث تيري، والذي يأبى إلا أن يختتم تلك الليلة الحافلة بما يشبه حلقة النار/حلقة الموسيقى النابعة من أعماق الجسد المشترك للجمهور الغفير، هو طرح جماعي للأحمال النفسية عبر الموسيقى، دفع الجمهور لشراء تذاكر لعروض ما بقي من الأيام الثلاثة للمهرجان.