يعشق العرب الايجاز لعدة أسباب: 1- أن العرب أمة ذكية فيهم فطنة، ولهذا يحبون اختصار الكلام.. 2- كانت العرب تعتمد على الحفظ أكثر من الكتابة، فالمتعلمون قلة، وحفظ الموجز أسهل من المسهب، ولهذا كان الشعر فنهم الأول رووه وتوارثوه جيلا بعد جيل، لأن الشعر - مقارنة بالآداب الأخرى كالرواية - يعتبر غاية في الايجاز، وهو سهل في الحفظ لأن جرسه الموسيقى ومعناه المكثف يعلق في الذاكرة.. تعتبر العرب الاسهاب في غير محله احتقارا لفهم السامعين كأنهم لن يفهموا إلاّ بالشرح الممل وتوضيح السهل وكأن هذا شك في ذكاء المستمع.. خير الكلام قليلٌ على الكثير دليلٌ ما قل دل وزبدة الهرج نيشان وبشكل عام كان العرب متقشفين في كل أمور حياتهم (قديماً قبل النفط طبعاً) فكان طعامهم قليلاً وبيوتهم عملية (بيت الشعر مثلاً).. لهذا ونحوه من ظروف العرب أحبوا الايجاز خاصة في الأدب، يريدون ما يسهل حفظه، ويدل قليله على كثيره، فكان بيت الشعر وحدة قائمة بذاتها يستطيع المنشد الاكتفاء بحفظه، ولم يشع الشعر القصصي بل كان نادراً، كما توارثوا الحكم والأمثال، وكلها من موجز الكلام. واللغة العربية لغة شاعرة، يستطيع الموهوب ان يعبر من خلالها عن المعاني الكثيرة بكلمات قليلة، وغير مخلة بالمعنى، ولهذا أحب العرب الكناية لأنهاء ترمز لمعان كثيرة بايجاز وتحريك للعقل والوجدان.. (نؤوم الضحى) كناية عن المرأة المدللة المترفة الناعمة.. وكذلك (ناعمة الكفين) رمز لكونها مخدومة مكرمة كأن جلدها الحرير.. كما ان الجواب بالكناية يخلص من الاحراج ويجمل المراد (رغوة الشباب، هكذا أجاب الاعرابي حين سئل عن الشيب الذي اشتعل في راسه، كما تستخدم في الهجاء بدهاء كقول الشاعر في بخيل: فتى مختصر المأكول والمشروب والعطر نقي الكأس والقصعة والمنديل والقدر والمتنبي بارع في الايحاء والايجاز قال في وصف حصان عربي أصيل: واصرع اي الوحش قفيته به وانزل عنه مثل حين اركب وقال يصف ما فعله سيف الدولة بالأعداء: فمساهم وبسطهم حرير وصبحهم وبسطهم تراب ومن في كفه منهم قناة كمن في كفه منهم خضاب صارت رجالهم كنسائهم! ومن ايجاز الحذف عند المتنبي: اتى الزمان بنوه في شبيبته فسرهم واتيناه على الهرم اي فلم يسرنا.. فهو حذف غير مخل يفهم من السياق ويقول الفارس راكان بن حثلين: ما قل دل وزبدة الهرج نيشان والهرج يكفي صامله عن كثيره واختصر راكان بن حثلين أهوال معركة الطبعة حين حوصر مع قومه فالعدو أمامهم والبحر خلفهم فقال: يا سابقي ما من صديق جمعين والثالث بحره والله لابوج لها الطريق لعيون براق النحر! واختصر الشاعر الشعبي عمر الانسان كله في بيت: ثلاثين عجات الصبا ثم تنجلي وعشر ويصبح مقدم الراس شايب ولرشيد العلي من الزلفي: نركض ومن صاد الجرادة شواها وللنار من ورث من المال دينار يدل على تفضيل الحاضر، وعلى الكرم، وعلى عدم الاهتمام بالمستقبل، وربما يدل على فقر البيئة وقلة الموارد وعدة معانٍ أخرى! ومن الايجاز قول حميدان الشويعر: يشب الفتنة مقرود يعلقها من لا يطفيها واختصرت نورة الحوشان تقلبات الدنيا وعجائب الحظ وتصارع رغبات النفس مع سطوة الواقع في بيت واحد: اللي يبنيا عيت النفس تبغيه واللي نبي عيا البخت لا يجيبه! كما اوجز ابو تمام الصفات الجميلة كلها في بيت واحد مدح به المعتصم: ولو صورت نفسك لم تزدها على ما فيك من كرم الطباع! لقاءات ابناء الصحراء قصيرة ورمزية عبدالله الجعيثن