أي منشأة، تتراكم لديها -عبر الأيام والسنين-، ممارسات وسلوكيات، وأحياناً قيم وأعراف إدارية، أو ما يمكن أن نطلق عليه إرثا إداريا متراكما، فيه من الإيجابيات كما أن به من سلبيات. لذا يحسن بمن يتولى قيادة منشأة ما لأول مرة، أن يكون قادراً على استيعاب ذلك الإرث، ومدركاً لأبعاده وتشعباته؛ كي يستطيع التعامل معه، وتوجيهه التوجيه الصحيح، بما يحقق أهداف تلك المنشأة، ويستجيب لتطلعات المتعاملين معها، والمستفيدين من خدماتها. والفشل، أو الضعف، في استيعاب ذلك الأمر، قد يقود إلى عواقب تنعكس سلبا على المنشأة أو الجهاز. هذا على مستوى المنشأة المحدودة الحجم، والمحددة الارتباطات، فكيف هو الحال حينما تكون المنشأة عبارة عن جهاز حكومي، يضم آلاف الموظفين، ويتعامل مع العديد من الشرائح والأطياف المجتمعية والحكومية. كيف سيكون الحال حينما لا تتوفر لمن يقود ذلك الجهاز معرفة ذلك الإرث الإداري المتراكم، وإدراك الأبعاد والعلاقات المتعددة لذلك الجهاز، والأسواء حينما ينظر لذلك الإرث من منظار الريبة والشك، بل والتجاوز والتسفيه أحياناً، واختزال تلك التشابكات والتداخلات في هدف واحد أو توجه محدد. يبدو أن هذا هو ما تعانيه بعض أجهزتنا الحكومية، أو مايعانيه بعض من أسندت إليهم مهام إدارة تلك الاجهزة، حيث الخلفية الإدارية والخبرات المعرفية لهؤلاء قد لا تمكنهم من إدراك أبعاد ذلك الإرث الإداري، وبالتالي استيعابه وتطويره، بل وتطويعه لخدمة التوجهات الجديدة، بدلاً من الصدام معه أو نسفه بالكامل، مما يحدث ردة فعل سلبية لدى المتعاملين مع ذلك الجهاز، سواء كانوا داخل الجهاز أو خارجه. الأجهزة الحكومية ليست شركات خاصة، ذات هدف واحد، وذات تعاملات محددة مع فئات معينة، كما أن لديها إرثا إداريا متراكما عبر سنوات عدة، فيه من الصح كما فيه من الخطأ، بل إن فيه -وهذا هو مربط الفرس- من الضروريات التي يجب الإمساك بها والحفاظ عليها، رضي قائد ذلك الجهاز أم لم يرض، بخلاف الشركات الخاصة التي من السهل تغيير مسارها وتحوير أهدافها وتطلعاتها متى حدث الاتفاق بين ملاكها وجهازها التنفيذي. هذا أصبح خللا واضحا أصاب بعض أجهزتنا الحكومية، بل هو خلل يعانيه بعض من ولي أمر تلك الأجهزة؛ حيث إن هذا الأخير يفتقد الاستيعاب الكامل، بل وأحيانا المحدود، لتشابكات وتداخلات وتعقيدات الجهاز الحكومي وارتباطاته وأدواره المتشعبة والمتداخلة، بل والمتعارضة أحيانا. والأسوأ من ذلك، أن البعض يفتقر للمعرفة الواضحة لدور الحكومة وعلاقتها بمكونات الدولة المختلفة، والتضحيات التي يجب عليها أن تقوم بها في سبيل إرضاء تلك المكونات، وتحقيق طموحاتهم ورغباتهم، بما يحقق استقرار الدولة وازدهارها. إن هذا الدور المتداخل والمتشابك، الذي تتطلب إدارته معرفة الإرث المتراكم للجهاز الحكومي، أمر مهم ولابد من إدراكه وأخذه في الحسبان عند إدارة أي جهاز حكومي، إذا أراد من يقود ذلك الجهاز النجاح وتحقيق أهداف الجهاز. هذا لا يعني الاستكانة والخضوع لذلك الإرث وعدم تطويره أو تحسينه، بل إن الأمر يتطلب استيعابه وفهمه من أجل تطويعه وتوجيهه بما يتناسب مع متطلبات التغيير، بدلاً من مصادمته وتجاهله، أو احتقاره وتسفيهه والاستهزاء به ومن ينتمي له من جيل المسؤولين والموظفين.