انطلق الغرب في سيطرته على العالم من مخزون معرفي وعلمي هائل تشكل خلال الحقبات الاستعمارية المتلاحقة، واستفاد من الأبحاث الميدانية لمفكريه الجامعيين، واستثمر معرفته العميقة لدراسة طبائع التفكير لدى الخاضعين له من أجل ديمومة سيطرته، واستخدم البنى الاجتماعية التقليدية لدى المهزوم لإلحاق قادته ومؤسساته وموارده الطبيعية بالمراكز الغربية. ومفهوم المرتكزات الذهنية لتلك السيطرة: الهيمنة، المعرفة، الربح، البوليميك، التنظيم، وهي تشكل مكامن قوة الغرب. في كتابه الجديد «المارد الصيني يسيطر» (منتدى المعارف-بيروت) قرر فريدريك معتوق الدخول إلى عمق تجارب التحديث الآسيوية مختاراً منها أربعة نماذج: اليابان، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، والصين، وحاول الإجابة على السؤال الأساسي: لماذا يسيطر المارد الآسيوي حالياً على الاقتصاد العالمي؟ وتبلورت موضوعات الكتاب على الشكل الآتي: من الغرب إلى الشرق، ولادة اليابان الجديد، طائر الفينيق الكوري، الإنجاز السنغابوري، الصين الحمراء، الصين الذهبية، من الشرق إلى الغرب، الهجانة الخلاقة. لعبة الشطرنج الغربي ليست نهاية العالم، لكنها تحتاج إلى مهارات كبيرة للاحتفاظ بمواقع محصنة عليها. والمحركات الذهنية في لعبة الشطرنج الغربي شديدة الارتباط بالتاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي الغربي، وهذا ما سمح للدول الآسيوية بالدخول إلى رقعة الشطرنج العالمي من خلال مرتكزاتها الذهنية الخاصة بها، وفتحت اليابان الباب لإطلاق حداثة أكثر إنسانية تقوم على التوازن بين التراث والمعاصرة، وهذا ما عجزت عنه دول الغرب بجناحيها الأوروبي والأميركي، لأنها رفضت تغيير مرتكزات سيطرتها طوال القرون الماضية. ومع نجاح اليابان في التفلت من مرتكزات السيطرة الغربية، احتلت الصين ودول النمور الآسيوية والهند موقعاً متقدماً على رقعة المواجهة في عصر العولمة، وتحدت الغرب بأسلحته، وبدأت بتعطيل ركائز هيمنته معرفياً وسياسياً وثقافياً واقتصادياً، وبات اللاعب الشرقي اليوم متواجداً بقوة على رقعة الشطرنج العالمية، وهو يواجه الغرب وجهاً لوجه بعد أن أتقن مبادئ اللعبة وقواعدها، «جاء زمن اللاعبين الملمين بقواعد اللعبة، وجاءت معها مفاجأة المارد الآسيوي الذي خرج من قمقمه وقرر السيطرة». عرض معتوق لأربع تجارب آسيوية متمايزة يربطها خيط فكري واحد بتجليات مختلفة: فالخيط الجامع هو الخيط المعرفي التاريخي الشرقي، الذي يتجلى في: التماسك الأسري، الإخلاص في العمل، وطاعة الحاكم. ومزجت الشعوب الآسيوية الحية بين موروثاتها الفكرية والعملية وبين أفضل ما أنتجته الشخصية الغربيةالجديدة الحديثة من دون مركب نقص، فلم تتجاهل الحداثة الغربية، بل تعاطت معها بعقلانية لافتة بهدف الوصول إلى معادلة جديدة للحداثة الكونية في عصر العولمة، ساعدها الفكر الكونفشيوسي للقيام بهذه الهجانة الفكرية الخلاقة، فالفكر الكونفوشيوسي ليس ديناً، ولا يعتمد العصبية الدينية أو العصبيات السابقة على قيام الدولة الحديثة، كالعائلية والقبلية والطائفية وغيرها. إنه فكر عقلاني يعتمد العقل مرجعية لخدمة الإنسان الفرد والمجتمع المتجانس، لذا لم يكن لدى الآسيويين مشكلة مع الحداثة الغربية، بل اعتمدوا أفضل ما فيها من قيم إيجابية ووظفوها على المستويين السياسي والاقتصادي والاجتماعي، من دون أن يتخلوا عن قيم الآسيوية الموروثة، فالعقلانية المرنة -لا العصبية الموروثة- هي التي ساهمت في الانتقال الذهني لبناء دول حديثة بخصائص آسيوية. والدولة الحديثة على النمط الآسيوي هي وحدها القادرة على مواجهة الدولة الحديثة عل النمط الغربي، وهذا ما سمح لها بالمواجهة الناجحة على المستوى الاقتصادي أولاً، حين كانت عاجزة عن المواجهة العسكرية ولا تتبناها، بل تتحاشاها. الهزيمة الموقتة أثبتت تجارب التحديث الآسيوية أن الهزيمة العسكرية هي هزيمة موقتة طالما بقيت الأمة متماسكة والشعب قادر على النهوض، وهي تتطلب الجرأة في ممارسة النقد الذاتي لتحاشي المواجهة غير المتكافئة مع الغرب، وأدركت الدول الآسيوية أن الانتصار في ساحات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا يفتح أمام شعوبها أبواب العلم وتبادل الخبرات البحثية والتفاعل الثقافي لبناء مجتمع المعرفة. عندما فقد الغرب الأميركي قدرته على السيطرة الاقتصادية لجأ إلى مؤسسات العولمة لفرض شروطه على اللاعب الآسيوي، لكن الدول الآسيوية رفضت إعلان الخصومة مع الغرب المأزوم اقتصادياً، وهي تتحاشى الصدام العسكري معه، وتدرك جيداً أن الغرب لا يستطيع فرض شروطه الاقتصادية أو قيمه الاجتماعية أو الثقافية على الدول الآسيوية التي تحررت من عقدة الدونية والتبعية للغرب. في جانب آخر، أثبت الآسيويون أن فكرة العلمانية تريحهم، لأن قيمهم مبنية على مبادئ الطاوية والكونفوشيوسية والبوذية والشنتوية، وهي فلسفات وضعية لا تشكل عقائد دينية صلبة بل مبادئ فلسفية واجتماعية مرنة، ورفعوا شعار مصادقة الغرب وليس مخاصمته، والتحاور معه وليس إعلان الحرب عليه، وتم تغييب مقولات الانتقام من الغرب الذي حكم الدول الآسيوية لعقود طويلة ودمر الكثير من طاقاتها في حرب الأفيون في الصين، واستخدام القنابل الذرية ضد اليابانيين، وتم التواصل مع الغرب من خلال اعتماد اللغة الإنكليزية وسيلة للتبادل على مختلف الصعد، ما جعل الآسيويين على اطلاع واسع على ثقافة الغرب مع المحافظة على لغات الشرق الصعبة والعصية على الانتشار العالمي إلا في حدود ضيقة. وبعد تقدمهم الاقتصادي، لم يعد الآسيويون يرون الغرب متفوقاً عليهم، بل لديه تجارب حضارية متميزة تمكن الاستفادة منها. وهم لا يسعون إلى الانتقام من الغرب بل الدفاع عن مجالهم الحيوي، والمحافظة الثابتة على موقع متقدم في عصر العولمة والتبدلات السياسية والاقتصادية والعلمية المتسارعة، فحققت الشعوب الآسيوية موقعاً متقدماً في الاقتصاد العالمي، وتحتل عبر الصين واليابان المرتبتين الثانية والثالثة في الاقتصاد العالمي. فهم اللاعب الآسيوي أن رقعة الشطرنج هي العام بأسره، وأن اللغة الإنكليزية هي لغة عصر العولمة من دون منازع، لذلك بدل استراتيجيته، فاعتمد التنافس الاقتصادي والعلمي والتقني والثقافي بديلاً من الحروب والعصبويات الدينية واللغوية الضيقة، وتعامل مع هزائمه العسكرية السابقة مع الغرب بكثير من العقلانية المرنة المستمدة من تعاليم الطاوية والكونفوشيوسية، فأثبت قدرة فائقة على كسر نزعة الانتقام العسكري في داخله من الغرب، واستعاض عنها باستراتيجية القوة الناعمة التي تركز على العلم والاقتصاد والقيم الأخلاقية، فبات الشرق المعولم اليوم يمتلك أسلحة فاعلة في مواجهة الغرب المعولم: القدرة الاقتصادية الهائلة، الانفتاح التام على كل الثقافات، التفاعل الإيجابي مع جميع شعوب العالم، وتجاوز نظرة الغرب الاستعلائية لتلك الشعوب وثقافاتها. تحرَّكَ الشرق الآسيوي على رقعة الشطرنج العالمية بقوة، متحلياً بالانضباطية التامة، وبروحية الجماعة التي تحمي حقوق الأفراد وتحقق رفاهية الجماعات، فتبلور مشروع جديد لعولمة تجمع بين الغرب والشرق معاً، هدفها توجيه مسيرة العولمة نحو آفاق اكثر إنسانية. وما زال الغرب يتعاطى مع الدول النامية والفقيرة بذهنية السيد، في حين تتعامل معها الدول الآسيوية بروح إنسانية، وتقدم لها كل أشكال الدعم لمساعدتها على النهوض. وهي تتجنب تبنّي النزعة العسكرية الغربية التي تستبيح جميع القيم وتسعى للتفرد والهيمنة على مقدرات العالم. لكن الدول الآسيوية حصنت نفسها من تلك النزعة، فتبدل موقع الاقتصاد العالمي باتجاه الشرق، حيث نسبة النمو السنوي كبيرة بسبب الأمن الاستقرار، في حين باتت الدول الرأسمالية الغربية تواجه موجة إفلاسات اقتصادية بسبب النمو الضعيف جداً والسلبي أحياناً، واستفحال الأزمات الاجتماعية الحادة. هكذا نجحت التجارب الآسيوية انطلاقاً من العقلانية المرنة من جهة، ومن غياب العصبية الدينية من جهة أخرى، فتلاقت العقلانية الصناعية الحديثة مع قيم العمل الفردي-الجماعي الآسيوية الموروثة، وبات النموذج الكونفوشيوسي المتجدد مركز الثقل في عصر العولمة ويبشر بتحويل القرن الحادي والعشرين إلى قرن آسيوي بامتياز. وتوقع معتوق أن ينتقل قطار السيطرة من الغرب إلى الشرق، في ظل استنهاض مثير للدهشة بعد مرحلة طويلة من الاحتلال والتبعية للغرب، فقد اعتمدت الدول الآسيوية على منظوماتها الفكرية في عملية الاستنهاض، كما يعزو السبب الأول في نجاحها إلى اعتناق تلك الدول نظرية الدولة الحديثة الغربية المنشأ، والقطيعة مع دولة العصبية السابقة القائمة على تقاليد الساموراي وغيرها. كتاب متميز جداً بما تضمنه من مقولات ثقافية بالغة الأهمية لفهم أواليات انتقال الدول الآسيوية من التبعية الاقتصادية إلى الاستقلال السياسي والتنمية البشرية المستدامة خلال فترة زمنية قصيرة، وهو يساهم في تأسيس رؤية علمية رصينة وغير مسبوقة في فهم الأسباب الاجتماعية والثقافية لصعود المارد الآسيوي وموقعه المتقدم في عصر العولمة.