ربما يعود جزء كبير من مشكلة العرب أنهم يتحدثون عن عصورهم الزاهرة، ويتناولون كل شيء فيها، يبدأون بالعلوم وينتهون بالأدب، ويسعون جهدهم في استقراء تلك الجهود وتقديمها لناشئتهم، يُبرزون المنتَج ويفخرون به، وينسون المنْتِج والجندي الخفي الذي كان له بعد الله الدور الأكبر، والمهمة العظمى، في ما يعتنون به، ويسعون إلى بعْثه وحث الناس على الاهتمام به، إننا نحن العرب نُوجّه عنايتنا كثيرا إلى ما تركه الأسلاف لنا، وأورثونا إياه، ونهمل كثيرا من الإهمال العقل الذي كان يقف وراء ذلك كله، ويبذل جهده في بنائه، فالعقل في تأريخنا هو الجندي الخفي؛ غير أننا انصرفنا إلى منتجاته، واهتممنا بآثاره، وتركنا دراسته والنظر فيه، فلم نعرف بعدُ العلة التي جعلت العقل يستيقظ في تلك الحقبة، وينهض فيها، وينام في غيرها من الحقب، لم نحفل بالأسباب التي دفعته إلى الأمام، وأبرزت طاقاته، وكشفت عن مكنوناته، ولم يُثرنا الحديث حول سُباته، مع إقرارنا به، وإيماننا بحدوثه، ولم تُحركنا أسباب تلك الفاجعة التي أصابته، وجعلته يتدحرج إلى التقليد والمحاكاة، وينفر من الاجتهاد والإبداع، تركنا العقل أن نبحث في أسباب قوته وظروف نشاطه، فلم نملك تفسيرا علميا، ولا شبه علمي، لتلك الأحوال التي مرّت به، فكان في إحداها فتيّا عارم القوة، يشق طريقه في المعرفة وبناء الفكرة، وكان في غيرها هزيلا ضعيف المنّة، يجهد جهده كله في استذكار أمجاده، وإعادة قصته، ومُسامرة ماضيه!. لو فتشنا في الحياة وتأملنا فيها؛ لم نجد سوى العقل المبصر سببا للنهضة، وقائدا إليها، وهو خيارنا الوحيد إذا أردنا أن نبقى أمة، نفخر بماض مشترك، ونعتز بالانتماء إليه من النعم الكبرى، والهبات العظمى، أن يكون لك ماض مجيد، وتأريخ عريق، تستخلص منه أسباب النجاح، وتلتفت فيه إلى علل النهوض، وتملك به تجربة فريدة، ترجع إليها، وتستهدي بها، وتجعلها نصب عينيك، وعلى مقربة من نظرك؛ غير أنّ الأعظم من هذا كله، والأكبر منه، هو أن تتجه إلى العقل الذي أنتجه، واللب الذي سعى به، فتُحيطه بدرسك، وتُجلله بعنايتك؛ لتُدرك العلة التي بها قام العقل في تلك المرحلة، ونهض فيها، فخلّف لك تجربة ثريّة، تمتحُ منها، وتستظل من حرارة الزمان بها، ثم تنظر إلى حال العقل في زمانك، وما أصابه من فتور، ونزل به من تقهقر؛ فتنبعث الأسئلة في ذهنك، وتجري على لسانك، وتقول حينها لنفسك: أليس لنهضة العقل من دواء؟ أليس لإشراقة العقل في القديم أسباب، أستطيع معرفتها، وأملك القدرة على فهمها واستيعابها؟ العقل هو سبب النهضة، وهو الطريق إليها، والباحث وراء غيابها، والمستشير فيها، والمستفهم عن فقدانها، وحين يدرسها، ويسعى خلفها، ويبذل قصارى جهده من أجلها؛ فإنما يدرس نفسه، ويلتفت إليها، ويغوص في جنباتها، فهو والنهضة وجهان لعملة واحدة، إن نهض كانت، وإن خبا نامت، ما لنبضها إلا هو، وما لوقودها إلا طاقاته، وحين نعتني به في القديم والحديث، ونغوص إلى أغواره، ونقلّب في السراء والضراء أحواله؛ نقع على أدوائه وأدوائها، ونجد علاجه وعلاجها، ونتلمس عافيته وعودتها، فلا شيء قبل العقل يُظن بنا أن نُوليه اهتمامنا، ونهبه رعايتنا، فبهِ نُعالج تحدياتنا، ونأسو خللنا، فما الذي تحلّى به العقل أولا فنهض، وما الذي أصابه بعد ذلك فخَنَسَ وتوارى؟ حين يُطرح سؤال النهضة، وتُشغل أنفسنا به، نجد جوابا جاهزا، وقولا حاضرا، وهو أن القضية كلها في الدين، وأن مراجعة الناس لدينهم هو طريق النهضة، والدرب إليها، وكأنّ الدين عوض عن العقل أو موقظ له وحادٍ لقواه، وهذا وذاك يُشككنا فيه الواقع، ويمنعنا من تصديقه ما نراه في الناس، فالأمم من حولنا، وهي أمم في رأينا لا دين لها، أو تركت دينها وراء ظهورها، تتقدم في الحياة، وتبني نهضتها، وتُداوي أخطاءها، ونعيش نحن، وديننا الإسلام، بعيدين عن النهضة، ومشغولين بقضايا الصراع الطائفي، ومهمومين بتفضيل مذاهبنا بعضها على بعض، فإن كان الإسلام هو ما يعرفه كل فريق منا، ويؤمن به، فأين أثره عليهم في النهضة، وأين دوره عندهم في التقدم؟ وإن لم يكن ما عليه كل فريق هو الإسلام والدين الصحيح فأين يكون ذلكم الدين الذي يُعين على التقدم، ويكون سببا من أسباب النهوض؟ لو جعلنا الدين والقرب منه والقيام به هو العلة وراء النهضة، والسبب الأعظم فيها كما يُروّج؛ لكان علينا أن ندرس ماضينا، ونتفحص أخبار أسلافنا، وننظر في عصورنا، من خلاله، فنأتي إلى القرون الخوالي، ونقيس تديّن أهلها، ونختبر ورعهم وزهدهم، ويأخذ كل فريق منا، ونحن مختلفون في مذاهبنا، تصوّرهم للدين، وفهمهم له، وينطلقون في دراسة الماضي؛ حتى يُبيّنوا لنا صدق فرضهم، وسلامة دعواهم، في أن الدين كما تصوّروه كان السبب الأول في النهضة، والعلة الأولى فيها. لم يحدث شيء كهذا في الماضي، ولن يحدث في المستقبل؛ فالماضي لا يُتيح لمثل هؤلاء الدارسين مادة، ولا يسمح لهم بمثل تلك الدراسة؛ فهم حين يعودون للماضي سيجدون العقل ومنتجاته أمامهم، ويُبصرون فتوحاته بين أيديهم، وسيرون أن العقلاء من أمة الإسلام، عربا أو غير عرب، هم بناة النهضة، وصُناعها، وسيجدونهم مختلفي المذاهب، ومفترقي الآراء، وسيعرفون حينها أن أخطر ما يُمكن أن يقوموا به في دراسة تأريخهم هو النظر إليه من خلال المذهب الذي ينتمون إليه، ويؤمنون به؛ لأنهم حينئذ سيُفرّقون أهل الماضي بعد أن كانوا أمة، ويجعلونهم أحزابا؛ فيكون فخرهم بأهل مذهبهم بعد أن كانوا يفتخرون بالانتساب إلى أمة واحدة، وأهل ملة جامعة. لو فتشنا في الحياة وتأملنا فيها؛ لم نجد سوى العقل المبصر سببا للنهضة، وقائدا إليها، وهو خيارنا الوحيد إذا أردنا أن نبقى أمة، نفخر بماض مشترك، ونعتز بالانتماء إليه، ومن الصعب أن نقول: إن الدين هو الذي يقف وراء تقدم الإنسان وتطوره؛ لأن أمامنا ظاهرتين؛ الأولى أصحاب الديانات، التي نراها باطلة، قد تقدموا، وأنجزوا في الحياة ما نأمل نحن بتحقيقه وإنجازه. والثانية أصحاب الدين الحق، وهم المسلمون، يعيشون في سبات كبير، وغياب عن الحياة عظيم، دلّنا عليه ما نرى من شكواهم، وما نسمعه من نجواهم. إن من الخير أن نقول لأنفسنا أولا وللناس ثانيا: إنكم انتصرتم علينا بالعقل، وتقدمتم به، حين عرفتم طرق استغلاله، وأدركتم سبل إيقاظه، ونُبعد ديننا ومذاهبنا من الجدل حول النهضة والحوار فيها، ولعله يكفينا من فضائل تفسير النهضة بالعقل، والبعد بها عن الدين والمذاهب، أننا سنجتمع على دراسة العقل والنظر فيه، وسنصبح بعيدين عن إيقاظ النعرات الطائفية، والانتماءات المذهبية، والجدل الديني، ونُمسي حين ندرس أسباب نهضة العقل وعلل يقظته أمة واحدة؛ كما هي حالنا حين ندرس التأريخ، ونتذكر مآثره، وننتمي إلى أمجاده، ولعل هذا يُوضح فضيلة النظر إلى الماضي من خلال معيار العقل واستغلاله واستنهاضه على النظر إليه من خلال معيار الدين والمذهب، فنحن نجتمع حين ندرس الماضي من خلال العقل، وجوده وغيابه، ولنا معايير متقاربة في تقييمه، وأسباب متشابهة في دراسته؛ لكننا نختلف أشد الاختلاف حين نعالجه من خلال الدين والمذهب؛ لأن همّ كل فريق وقتئذ أن ينتصر لمذهبه، ويُظهره سبباً للنهضة، وعوناً عليها. 976