أولى رحلات المستفيدين من مبادرة طريق مكة تغادر مطار حضرة شاه الدولي ببنجلاديش    نجاح أول عملية زراعة كلى بمدينة الملك سعود الطبية    محافظ الطائف دعم الإسكان يجسد اهتمام سمو ولي العهد بالحياة الكريمة للمواطنين    مغادرة أولى رحلات المستفيدين من مبادرة "طريق مكة "من جمهورية باكستان الإسلامية    مدير مكتب صحيفة "الرأي" بجازان يحتفل بتخرج نجله مجاهد من قسم الهندسة الكيميائية بجامعة جازان    انطلاق برنامج "أخصائي الاتصال التنموي" لتعزيز قدرات القطاع غير الربحي    Saudi Signage & Labelling Expo يعود إلى الرياض لدعم الابتكار في سوق اللافتات في المملكة العربية السعودية البالغة قيمته 492 مليون دولار    فايزر السعودية والجمعية السعودية لأمراض وجراحة الجلد توقعان مذكرة تفاهم    "الصحة" تطلق المسح الصحي العالمي 2025    "المياه الوطنية" تبدأ تنفيذ 4 مشاريع بالجوف    قوات الاحتلال تنفّذ عمليات هدم في رام الله والخليل    كشف النقاب عن مشروع «أرض التجارب لمستقبل النقل» في السعودية    الفريق الفتحاوي يواصل استعداداته لمواجهة الشباب.. وقوميز يعقد مؤتمرًا صحفيًا    كارلو أنشيلوتي يتفق مع منتخب البرازيل    رياح و امطار على عدة اجزاء من مناطق المملكة    المخزونات الغذائية والطبية تتناقص بشكل خطير في غزة    منظمة العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية    أمير منطقة جازان يرعى حفل تخريج الدفعة ال20 من طلبة جامعة جازان    الهدد وصل منطقة جازان.. الأمانة العامة تعلن رسميًا عن الشوارع والأحياء التي تشملها خطة إزالة العشوائيات    المنتخب السعودي للخماسي الحديث يستعد لبطولة اتحاد غرب آسيا    نادي الثقبة لكرة قدم الصالات تحت 20 سنة إلى الدوري الممتاز    في الجولة 31 من يلو.. نيوم لحسم اللقب.. والحزم للاقتراب من الوصافة    كلاسيكو نار في نصف نهائي نخبة آسيا للأبطال.. الأهلي والهلال.. قمة سعودية لحجز مقعد في المباراة الختامية    رافينيا: تلقيت عرضا مغريا من الدوري السعودي    الفالح: 700 فرصة استثمارية في الشرقية بقيمة 330 ملياراً    أمير مكة: دعم سخي يؤكد تلمس حاجات المواطن    توجّه دولي يضع نهاية لزمن الميليشيات.. عون:.. الجيش اللبناني وحده الضامن للحدود والقرار بيد الدولة    بوتين يعلن هدنة مؤقتة في ذكرى انتصار الاتحاد السوفيتي    الضيف وضيفه    شدّد على تأهيل المنشآت وفق المعايير الدولية.. «الشورى» يطالب بتوحيد تصنيف الإعاقة    زواجات أملج .. أرواح تتلاقى    أمير المدينة يدشّن مرافق المتحف الدولي للسيرة النبوية    الأمير فيصل بن سلمان:"لجنة البحوث" تعزز توثيق التاريخ الوطني    الانتخابات العراقية بين تعقيدات الخريطة وضغوط المال والسلاح    السعودية ومصر تعززان التعاون الصناعي    وفاة «أمح».. أشهر مشجعي الأهلي المصري    النصر يتوج بكأس دوري أبطال آسيا الإلكترونية للنخبة 2025    حكاية أطفال الأنابيب (2)    وزارة الداخلية تواصل تنفيذ مبادرة "طريق مكة" في (7) دول و(11) مطارًا    «الشورى» يقر توصيات لتطوير مراكز متخصصة للكشف المبكر لذوي الإعاقة والتأهيل    محمد بن عبدالرحمن يلتقي نائب "أمن المنشآت"    استعراض منجزات وأعمال "شرف" أمام أمير تبوك    بيئة جدة تشارك في فعالية «امش 30»    محافظ محايل يكرم العاملين والشركاء في مبادرة "أجاويد 3"    انطلاق ملتقى "عين على المستقبل" في نسخته الثانية    شذرات من الفلكلور العالمي يعرف بالفن    GPT-5 وGPT-6 يتفوقان على الذكاء البشري    مكتبة الملك عبدالعزيز تعقد ندوة "مؤلف وقارئ بين ثنايا الكتب"    أمير المدينة المنورة يدشّن المرافق الحديثة للمتحف الدولي للسيرة النبوية    الرياض تستضيف الاجتماع الدولي لمراكز التميز لمكافحة الإرهاب    تدشين 9 مسارات جديدة ضمن شبكة "حافلات المدينة"    محافظ تيماء يرأس الجلسه الأولى من الدورة السادسة للمجلس المحلي    بلدية مركز شري تُفعّل مبادرة "امش 30" لتعزيز ثقافة المشي    جامعة الأمير سلطان تطلق أول برنامج بكالوريوس في "اللغة والإعلام" لتهيئة قادة المستقبل في الإعلام الرقمي    أمير الشرقية يرعى تخريج الدفعة ال 46 من جامعة الملك فيصل    كيف تحل مشاكلك الزوجيه ؟    السعودية تمتلك تجارب رائدة في تعزيز ممارسات الصيد    بتوجيه من ولي العهد.. إطلاق اسم "مطلب النفيسة" على أحد شوارع الرياض    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التراث تجارب الأسلاف
نشر في أنباؤكم يوم 26 - 06 - 2015


د. إبراهيم المطرودي
الرياض - السعودية
كانت للأسلاف تجارب فكرية، مثّلوا فيها عصورهم، وصدروا فيها عن أسئلة زمانهم، وامتدت رقعة تلك التجارب، وتكاثرت النحل والمذاهب، فكان في العقيدة منها العشرات، وفي الفقه قريب من ذاك، ولو بحثنا وراء هذه الكثرة، وتحرّينا خلف هذا التنوع لما وجدنا له سببا أظهر من الحرية الفكرية التي كان يؤمن بها كل هؤلاء، وينطلقون منها، ويعدّونها رأس المسؤولية عندهم، ويرونها حقا لا يصح لهم التنازل عنها أمام الآخرين الذين يخالفونهم في الرأي؛ إذ لو كانوا ينظرون للمعرفة نظرتنا هذه الأيام لما كان في مقدورهم بناء هذه الإمبراطورية التراثية، ولو كانوا ينظرون لمن تقدّمهم من السلف بمثل نظرتنا في أزمان التقليد لما استطاعوا أن يذروا لنا هذا التراث المترامي الأطراف في العقيدة والفقه وغيرهما من العلوم، ولو كان أسلافنا مثلنا، تستحوذ على عقولهم مقالة "ألا يسعك ما وسعهم"، لما رأينا هذا التراث العظيم في تنوعه، والكبير في ضخامته؛ فالتراث من أظهر البراهين على أن الأسلاف يرون أنفسهم مسؤولين، وليسوا فقط تابعين لمن سبقهم، وطَرَحَ تجربته قبلهم.
التجربة رهن بالحرية الفكرية التي يؤمن بها الفرد، ويرى من حقه أن ينهض بها، وتنهض به، وإذا غاب هذا الشعور تجاه الحرية لدى الأفراد، وساد بينهم أن ليس في المكنة شيء أعز مما مضى وكان، فما للتجارب حينها من قيمة، وما للادعاء بها من دليل؛ إذ لا تقوم التجارب، ولا ينسب للمرء الاتصاف بها ما لم يكن حرا، قادرا على الاختبار والاصطفاء.
الحرية شرط التجربة، ومتى ما سادت في مجتمع محاربة الحرية، ومناهضة دعاتها، وعدّها من كبرى التحديات، فما من المنتظر أن يكون للفرد، بله المجتمع والجماعة، تجربة مستقلة، تكون لبنة من لبنات التقدم الذي من أهم شروطه تراكم التجارب، وبناء الخبرات بعضها فوق بعض.
هناك مقالة حزمية، نسبة لابن حزم رحمه الله، تؤكد ضرورة الاستقلال عن الأسلاف وتراثهم، والنظر إلى النص الديني من جديد، فتجربة السلف الأول عند ابن حزم لم تكن كافية، ولم يكن تديّن الصحابة، وقربهم من رسول الله، واختصاصهم به، يمنحهم حق امتلاك الحقيقة، وما دام هذا النظر صادقا عليهم، فهو على غيرهم من الحقب والأعصار أصدق؛ يقول ابن حزم: "فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فحرام عليه أن يرد شيئا مما اختلف فيه إلى قول عائشة وأم سلمة وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ والعباس، رضي الله عنهم أجمعين، وهؤلاء أفاضل الأمة وعلماؤها، فكيف إلى قول أبي حنيفة وإلى سفيان ومالك والشافعي وأحمد وأبي داود وأبي يوسف ومحمد وابن القاسم".
إن تأكيد ابن حزم على الرجوع إلى الله تعالى في كتابه حين الاختلاف، وإلزامه المسلمين بالعودة إلى سنة نبيه؛ لهو ظاهر الدلالة على أنه لم يرتض مبدئيا تجربة الأسلاف الأولى، ولم يتخذ منها حائلا دون النظر في النص، والفهم لمعانيه؛ فابن حزم داعية تكوين تجارب على ضفاف النص، وليس حارسا من حراس المعاني الموروثة، والتجارب الماضية.
بل إن ابن حزم، رحمه الله، أتى بهذا الكلام بعد قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر)، هذه الآية تأمر حين التنازع بالعودة إلى الله تعالى ورسوله، ونحن إذا فتشنا تأريخنا، وقلّبنا علومنا، لم نجد فيهما شيئا أوضح من الاختلاف، وأبين منه، فأضحى لزاما على كل جيل مسلم أن يُعيد قراءة النص الديني بنفسه، ويرجع إليه دون غيره، ولا يجوز له أن يكتفي بما قاله أسلافه، وهم مختلفون أشد الاختلاف وأعظمه.
التراث تجارب الأسلاف، سواء تمثل في أفراد أم مؤسسات علمية، وأقصد بها المذاهب والنحل، وتلك التجارب تُظهر بوضوح جانب الاختلاف، وتُبرزه على غيره، ولعله يكفي القارئ في هذا السياق أن يذكّر نسبة المجمع عليه في العقيدة والفقه بين تلك المذاهب، فهو جزء يسير لا يعدل شيئا في هذا التراث، ومع قلته ففي مسائله اختلاف بين الناس، فتراثنا بصورته الكبرى يدعونا إلى مراجعته، واختباره من جديد في ضوء النص الديني نفسه، وتلك هي دعوة الله تعالى لنا حين التنازع والاختلاف، وهكذا فلا عذر لنا في الصدّ عن التجربة، والابتعاد عنها.
يفرض علينا الاختلاف، ويفرض على كل جيل آت، أن يكون له تجربة مستقلة، ونظرة جديدة؛ فما دامت الأجيال خبيرة باختلاف المسلمين، وعليمة به، فلم يعد لها عذر تحتمي به، وكهف تأوي إليه، وتخلد فيه بعيدا عن التجربة الدينية؛ فهي حتم ديني، قاد إليه الاختلاف، وألزم به التباين بين الأسلاف.
وحين يُعرف أثر الاختلاف في إيجاب النظر، وبعث الهمة، والأخذ بيد الإنسان نحو الفكرة؛ تُدرك حيلة التقليد وأهله في محاولة طمس الاختلاف، والتهوين من شأن المختلفين، فالمقلدة يُدركون أن الاختلاف، والمعرفة به، تبعث التجربة المستقلة في الإنسان، وتحثه عليها، وهذا ما جعلهم يُحاربون غيرهم، ويضللونه، ويُفسّقونه، ويسعون إلى إظهار أي خلاف بمظهر ما لا دليل عليه، ولا حجة له، وقبل هذا وذاك يبذلون قصارى جهدهم في منع الإنسان من أن يعرف بالاختلاف، ووجوده بين الناس؛ حتى انتهت بهم الحال إلى تسييج العقل الإنساني بتلك المقالة "من كان شيخه كتابه، فخطؤه أكثر من صوابه"، وكأن العبرة بالشيخ والكتاب، وليست بالإنسان المسؤول عن نفسه دنيا ودينا.
وإذا كانت الآية الكريمة أبرزت التنازع والاختلاف بين الناس، وعُنيت بهما، ودعتنا إلى السبيل الفُضلى، وهي التجربة المعرفية الجديدة، واكتفت بذلك، ولم تكشف لنا عن علة هذا الاختلاف وسببه، فقد حاول الناس من قديم الزمان أن يتلمسوا هذا السبب، ويعرفوا وجهه، وكان مما خرجوا به أن معرفة الإنسان صادرة منه أولا، وليست بعائدة إلى موضوعه الذي يدرسه، ويسعى لفهمه، فحال العارف هي الحاكم الرئيس في مسألة المعرفة، فمعرفته تنبثق من حاله، وليس من حال الموضوع المراد معرفته، وهذا ما يدفع بعض الكُتّاب في مقالاته وكتاباته إلى حكاية عالم الأفكار الذي كُتب له أن يقرأ فيه كما بدا على صفحة ذهنه، وكما ساعدته خلفيته على فهمه، واستيعاب ما فيه، وهذا ما يدعو أمثال هؤلاء إلى إلباس حديثهم جملا من مثل "وأرجح الظن، وبادئ الرأي"، فليسوا ممن يدّعي تقديم الأفكار والنظريات والمذاهب والاتجاهات كما أراد لها أصحابها، وراموا من ورائها؛ فتلك مهمة صعبة عليهم، إن لم تكن مستحيلة، وصعوبتها من ارتباط هذه النظريات والاتجاهات بزمانها ومكانها والناس من حولها؛ فهي صورة عقلية، منقولة عبر اللغة، لواقع مادي محسوس، وهي وإن بدت سهلة المأخذ، قريبة المأتى؛ فإنما مرد هذا إلى انفصالها عن الواقع الذي نشأت فيه، وأخْذها بعيدا عن أجواء الجدل من حولها، ولو قصد المرء فهم النظرية والمذهب والاتجاه من خلال تأريخها وتشابكها مع واقعها؛ لوجد فيها كثيرا من الاختلاف والتباين، وإذا كان الناس يختلفون في فهم آية، وبيت من الشعر، وسورة كريمة، وقصيدة تامة؛ فهم إلى الاختلاف في فهم النظريات والمذاهب والاتجاهات أقرب، وإلى هذا المصير معها آكد؛ إذ يختلط فيها كثير من المؤثرات، ويقف وراءها عناصر غفيرة، فالنظريات والمذاهب والاتجاهات تجربة جيل من البشر، وجماعة من الناس، ومثل هذه الأشياء أولى بصعوبة الفهم، وأجدر بعدم القدرة عليها؛ فهي من موضوعات المعرفة، ذات العلائق الكثيرة، وقد أشار إلى هذه الصعوبة في فهم الموضوعات، وفسّرها بما تقدم ذكره، دون تفرقة بين الموضوعات القنصل الروماني، ورجل الدين المسيحيي، بونثيوس، المعدم سنة خمس وعشرين وخمسمئة قائلا: "وسبب هذا الخطأ أن الناس تظن أن كل معرفتها تعتمد على طبيعة موضوعات المعرفة، وقابليتها لأن تعرف، وهذا خطأ فادح، والنقيض هو الصحيح؛ فكل ما يُعرف إنما يعرف وفقا للقدرة المعرفية للعارف، لا لطبيعة الشيء المعروف" (عزاء الفسلفة262).
وإذا كان قوله يصدق على الموضوعات المادية المحسوسة فهو على المعارف وعالم الأفكار أكثر صدقا، وبهذا يتهيّأ لتجاربنا الفكرية، ويدعونا إليها، سببان؛ الأول أومأت إليه الآية الكريمة، وهو الاختلاف بيننا قديما وحديثا، والثاني عدم قدرة الإنسان على الخلوص إلى حقائق الأشياء؛ لأنه رهن بقدرته، ولحظته الزمانية، وبهما يبين لنا شيء من حكمة الله تعالى في قوله (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم)؛ إذ الاختلاف بين الناس داعية التعارف، وسبب التقارب، وليس داعية التنابذ، وعلة التناحر؛ كما هي حالنا نحن المسلمين، ولعل من الحكمة في إرداف التعارف بالتقوى؛ أنّ التقوى تدعو إليه، وتحض عليه، فلنفكر إذًا في مقدار التقوى الذي فقدناه حين اكتفى كل فريق بما عنده، وفرح كل حزب بما بين يديه، ولنُصغ معنى انفتاحيا للتقوى، يجعلها دافعا للانفتاح، ومُحرضا عليه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.