وحده، قسطنطين كفافيس" من بين كل هؤلاء الأجانب، المتمصرين، الذين ولدوا وعاشوا فى مدينة الإسكندرية، هو الذى عبر فى شعره عن روح تلك المدينة الكوزموبوليتانية، وجسد بذلك الشعر المتعدد الأبعاد،الذى احتوى التاريخ، والمكان، وحركة البشر فى مدينة تحمل على كتفيها آلاف السنين، احتوت بعرفان، حضارة المتوسط: اليونان والسكندريون وبعض الأصداء من روما القديمة وعرب الفتوح. هو "قسطنطين كفافيس" شاعر التجلي والرمزي والاستعاري، الذي كتب "أوديستة" عابراً آخر أيامه من مدينة ولد فيها، وعشقها إلى حد الجنون، وظل يردد دائماً عندما يطل من نافذة بيته على الإسكندرية آخر الليل: أي مكان أجمل من هذا يمكن استقر فيه، وسط مركز الوجود هذه "مبغى وكنيسة للغفران ومستشفى يموت المرء فيه". هو، ومن معه، هؤلاء الذين كتبوا بلغات أخرى أعذب الكلام، وطرحوا على الإنسانية أصعب الأسئلة، وتركوا تراثاً هائلاً يشير عليهم من شاركوا في التحديث: كفافى وفيلبوس صاحب رواية المشتغلون بالقطن وجوسبا جوراني وديمس روسوس وأو نجريتي الإيطالي، تتقاطع أصواتهم مع المصريين الذي كتبوا بالفرنسية، وشاركوا في أحياء السريالية في بداياتها: جورج حنين وأحمد راسم ورمسيس يونان وأندريه شديد وجويس منصور. أصداء الحداثة الأولى تتبادل الأدوار بين القاهرةوالإسكندرية. وكفافيس الشاعر أحد هؤلاء الذين ولدوا بالاسكندرية، وعاش بها أباً عن جد. ولد "كفافيس" في العام 1863 بشارع شريف جاء إلى المكان المتفرد الذي يزدحم بالأقليات، التي تباشر حياتها عبر العديد من الثقافات المختلفة والتي تضخ المعارف وتغنى بها مدينة تعيش ازدهارها، وأرثه من الحضارات المتنوعة التي عاشتها. ولد من أسرة يونانية. كان ترتيبه الأخير بين ثمانية من الأخوات عمد في كنيسة أرثوذكسية. صحب أمه وهو صغير في رحلة إلى إنجلترا، وأمضى هناك عددًا من السنوات قرأ فيها شكسبير، وأوسكار وايلد، وأجاد الإنجليزية، وأختبر أسباب الحضارة، وعاش ذكريات الماضي وثقافته، وساعدته تلك الرحلة في مقتبل العمر على تكوين ثقافة شاملة عن أوروبا، وعرفها فكراً وأدباً وتاريخاً وفلسفة. حين عاد إلى الاسكندرية في العام 1879 التحق بمدرسة التجارة. وشغف بدراسة الأدب الكلاسيكي اليوناني، وكذلك بالحضارة البيزنطية. عمل بعد ذلك صحفيا، ثم توظف في البورصة، ولما مات أخاه الذي كان يكفله رغب الشاعر في عمل دائم فالتحق بوظيفة كتابية في مصلحة الري بوزارة الأشغال المصرية. بدأ يكتب الشعر، متميزاً بقصيدة مغايرة لما كان يكتب، وكانت رؤيته للعالم منفتحة على التواريخ، والرغبة في تجسيد روح الماضي. تتقاطع فيها التراث مع مضامنيه، وكان شغوفاً بتناول الأساطير فكتب عن "الأوديسا" التي كانت الاسكندرية في وعيه، البديل والمحتوى، وعاء الأزمنة التي ينتظر منها "البرابرة". كان أبناً للاسكندرية، تتلبسه بغموضها، وأخلاط أجناسها، وحكايات تاريخها المثقل بالحوادث والبراهين، وتلك الحكايات التي لا تنسي عن البشر الأحياء الذين يجوسون في مدينة مزهوة بألق الفنون، وبالأجناس من كل مله ونوع. وصفه الناقد "بونامي دوبريه" حين عرفه: لقد قابلت اسكندرانيا بكل ما ينطوي عليه ذلك من معنى فقصائده وحديثه كالاسكندرية، والاسكندرية كلها معنى: البحر والبيوت والميناء والسكة الحديد والاسكندر والولاة والرومان بل وعمرو وأقليدس وكاليماخوس، كما ضمت أيضاً هؤلاء القدامى من العوام الباقين: اقترب من النافذة ثابت الجنان وانصت وأنت مفعم بالعاطفة الجياشة لا بتوسلات وضراعات الجبان وآه يا للغبطة السامية! انصت إلى النغمات ودع الإسكندرية التى تفقدها قابل "كفافيس" في زمن الحرب العالمية الأولى أى.أم . فورستر الروائي الأشهر، صاحب "الطريق إلى الهند" حين كان يكتب "فورستر" عن الاسكندرية "تاريخ ودليل مدينة"، وأصبحا صديقين، حميمين، وحين قرأ "فورستر" أشعار "كفافيس"، إنتبه أنه في حضرة شاعراً استثنائياً، من هؤلاء، أصحاب المواهب الكبيرة، القادر على الشفافية في التقاط النادر في روح الإنسان، وروح الوجود على السواء، هؤلاء الذين يحملون وعياً شاملاً لثقافة الإنسان وأحواله. حمل "فورستر" أشعار "كفافيس" إلى أنجلترا وقرأها حين ذاك للمؤرخ "أرنولدنوينبى" والروائى الأشهر " د.ه . لورنس" ومؤسس الحداثة الشاعر "ت.س. اليوت"الذي قام بنشر قصائد السكندري، المهمة بحفاوة، واستقبال حسن، بالذات قصيدته "ايتثاكا" التي مطلعها: عندما تبدأ رحيلك إلى إيثاكا تمن أن يكون الطريق طويلاً، مليئاً بالمغامرات والأشياء المثيرة. ولتكن الرحلة فرصة لأشباع شغفك بالمعرفة وإذا وجدت ايثاكا فقيرة ومعوزة فهي لم تخدعك. فمن الحكمة التي اكتسبتها والمعرفة التي حصلتها والخبرة التي صارت جزءاً منك سوف تفهم معنى أي أيثاكا أمضى "كفافيس" عمره لم يكتب ديوانا يطبع ويباع لقارئ مفترض، لكنه كان يهتم بكتابة سبعين قصيدة في العام، ثم يمزقها كلها ماعدا أربع أو خمس قصائد بطبعها مع مثلها في طبعات خاصة يوزعها على أصدقائه نشر أول مجموعاته التي تحتوى على أربعة عشرة قصيدة، وكان قد وصل عمره الواحد والأربعين. لم يهتم يوماً بناقد، وبسبب من حدته، وتمجيده لشعره راج اسمه في المدينة التي أحبها. دائماً ما كان يذكر المثل العربي، ويقول: تضع انثى النسر ثلاث بيضات. ومن الثلاث تهمل واحدة، وترقد على البيضتين الآخريين، ومن فرختها لا تطعم غير واحد. ثم يقول " أيها الشاعر لتحذ حذو أنثى النسر، وأن كتبت ثلاث قصائد فلتكن الجسارة على اعدام اثنتين منها. تقاعد الشاعر من وزارة الأشغال فى 1922. تفرغ للشعر يعيش قريباً من محطة الرمل في شارع اسمه الآن "كفافيس" والبيت حوله اليونانيون والمصريون الى متحف يليق بالشاعر، به صوره وكتبه ومخطوطاته، وبعض من ذكريات قديمة تكمن هناك في أروقة المكان وحجراته، تستقر أحياناً على أثاث من آرابيسك فيما ينبع من الغيات صوت شاعر كبير، كان ضميراً لمدينة لها مجدها الغارب. اسمعه ينشد: أنا ياسيس أرقد هنا فى هذه المدينة العظيمة كنت مشهوراً بوسامتى نضبت الدماء في عروقي وأصابتني الدمار يا أيها المسافر، إذا كنت سكندريا فلن تلومني وأنت تعرف حميّة حياتنا هنا