يميل الكتّاب لأن يكونوا مخلوقات وحيدة، ومع ذلك فهنالك أكثر من اثني عشر ألفاً منهم سيجتمعون في لوس أنجلوس هذا الأسبوع. المناسبة هي المؤتمر السنوي لجمعية الكتّاب وبرامج الكتابة أو ج.ك.ب، والتي بدورها تجذب آخرين من المهتمين بالأدب من معلمين ومحررين وناشرين ونقاد وباعة كتب والذين ككل يشكلون الصناعة الأدبية. أن أحاط بأكثر من اثني عشر ألفاً من الأشخاص الذين يشاركونني ذات القناعات يغمرني بشعورٍ عارمٍ لا باطمئنان، خصوصاً ولأنه أفضل ما أقوم به أنا وغيري من الكثير من الكتّاب هو البقاء وحيداً؛ الحالة الأكثر ضرورة للكتابة. الكتاب الذي يستهكله قارىء ما في عدة ساعات كان قد كلف الكاتب مئات بل ربما الآلاف من الساعات والوقت الذي أمضاه وحيداً بصحبة عقله (في ما عدا التهائه بالواقع الافتراضي على شبكات التواصل الاجتماعي). مؤتمر مثل ج.ك.ب يدفع الكاتب وعمله نحو الجمهور، حتى ولو كان هذا الجمهور متعاطفاً ومهتماً بالأدب. مواجهة كهذه تثير سؤال الجمهور؛ لمن يكتب الكاتب المنعزل؟ طوال العقد البائس الذي قضيته في كتابة القصص القصيرة، غالباً ما أدهشني القلق من الكتابة للآخرين. كنت أتساءل إذا ما كان المحررون سيقبلون قصصي، إذا ما كان وكلاء الأعمال سيتصلون بي، إذا ما كانت اللجان ستمنحني جائزة، إذا ما هلل الكتّاب المشهورون لكلماتي. وبالرغم من أن الكتابة قد تضمنت تنقيب أفكار ومشاعر وصوراً ورؤى من أغوار كهفٍ بجوفي، لم أستطع زحزحة الشعور بأن لقرار الصناعة الأدبية من الأهمية كما لخياراتي الإبداعية. مؤتمر ج.ك.ب هو المنتج المنطقي لهذه الصناعة الأدبية، والذي أتى إلى الوجود لنفس السبب الذي يجمع صانعي السيارات وشركات الأدوية معاً: لمشاركة المنتجات الأكثر جاذبية والتوجهات الشائعة، لتشكيل شبكات جديدة وتجديد روابط قديمة، والأكثر أهمية؛ للتأكيد على هوية وقناعة مشتركة. الفرق بالنسبة للكتّاب هو أن تجارتهم المنعزلة وحرفتهم في خلاف مع حاجة الانسان إلى التجمع في قبائل، باستثناء أن القصة، القصيدة، أو الصورة التي يخلقها الكاتب هي النار التي تجتمع حولها القبيلة. إذا كانت الصناعة تكمن في تجارة النشر وتزايد ماجستير الفنون الجميلة في عالم الجامعات الاستثمارية؛ تجسد القبيلة المجتمع الانساني الذي عاش فترة ما قبل الرأسمالية ونأمل أن يعيش بعدها. كل الكتّاب يحتاجون إلى قبيلة القرّاء، وقد يحتاج كثيرون إلى الصناعة. ولكن البعض مثلي يحتاج أيضاً إلى التفريق بين الاثنين، على الأقل لفترة من الوقت. لقد تعلمت عمل ذلك عندما كنت أعمل على رواية وبعد معاناة مع القصص القصيرة. إعادة الصياغة المستمرة للجملة والسرد من خلال كتابة القصص القصيرة كان طريقتي لفرك عودين معاً. فجأة، في ذروة عقد من الزمن، اشتعلت النار واستطعت الكتابة بقناعة وتركيز أكثر ممَّا كنت أعتقده ممكناً. أنهيت كتابة "المتعاطف" في سنتين وثلاثة أشهر، متمكناً أخيراً من إسكات مطالب الآخرين على نحوٍ شبه تام. الاضطرابات الوحيدة أتت عندما تحدثت مع وكيل أعمالي، والذي بالرغم من دعمه، كان أيضاً جزءاً من الصناعة الأدبية. بعد تحدثي معه، كنت قلقاً عن ما إذا كانت روايتي ستُباع، عن ما إذا كان أحد سيقرأ أو يفهم ما يبدو على أنه شخصي جداً. حينذاك طردت كافة المخاوف، عدت مجدداً إلى الصفحة، وأعدت الالتزام بما كان أساسياً: الكتابة لنفسي. الادعاء بأن الشخص يكتب لنفسه هو ليس بالعادة ما تود الصناعة الأدبية سماعه. على نحوٍ مثالي، يجب على الشخص أن يكتب للملايين، بالرغم من أن عشرات الآلاف هو عدد أكثر من اللازم في بيئة مبيعات الكتب المعاصرة. بل سيكفي الكاتب الأدبي ما هو أقل من ذلك: الآلاف، المئات، العشرات، بل ربما شخص آخر فقط يستطيع الكاتب التواصل معه. حجم الجمهور ليس بشاهدٍ على قيمة العمل. معظم الكتب الأكثر مبيعاً ستتحول إلى تراب برفقة كتّابها، بينما يستمر المهم من الكتّاب والثابتون غالباً في الكتابة لما يدعى بالمجلات الصغيرة، أو لجماهير صغيرة مهتمة بالتجريبي، الغامض، التخريبي، وبالأقلية. أما بالنسبة لي، فبالكاد أستطيع أن أنكر رغبتي بجمهور بعدما أنهيت رحلتي في العزلة وعدت إلى العالم. كنت أريد أن يحب وكيل أعمالي الرواية، وتقتُ أن يشتريها محرر، ومن ثم رغبت بالوصول إلى النقاد، أمناء المكتبات، المعلمين، المدونين، والباحثين. لا يزال ما أسمته الكاتبة الرائدة تيريزا هاك كيونغ تشا الحلم بجمهور باقٍ، حتى بالنسبة لشخص شديد وجريء كما كانت. هذا الحلم يكمن في الغرور، الشهوة، والهشاشة. هذا الحلم يكمن أيضاً في الإيمان بأن أيا ما يكتشفه الكاتب في أغوار جوفه هو شيء يستطيع مشاركته مع الآخرين، سواء كان هذا الاكتشاف جميلاً أو مشوهاً. الحلم بجمهور هو باختصار جزء مما يجعلنا بشراً في الضعف والقوة، وسيكون كل ذلك جلياً في هذا المؤتمر الذي يضم آلاف الأدباء الحالمين. يبقى بداخل كل شخص من هؤلاء الحالمين تلك الرغبة بالكتابة لأجل الذات فقط. إذا ما وجدَت روايتي جمهوراً، فقد كان ذلك بسبب أنني لم أكتب لأحد سواي (حتى عندما شكلني الآخرون على نحو لا يمحى). لكنني بينما احتجت إلى البقاء وحيداً للكتابة لأجل ذاتي، اكتشفت بعد النشر أنني لم أكن غريباً في عزلتي كما ظننت. كان هنالك قرّاء يفكرون ويشعرون مثلي، حتى في وجود قرّاء لم يكترثوا لوجودي. هذا ما يعنيه الخروج إلى العالم. فذلك يتضمن تجديد العلاقات الانسانية وإدراك أن الشخص لا يستطيع وربما لا يجب عليه أن يُستلطَف من الجميع. بعد الأضواء الساطعة لمركز المؤتمرات وقاعة الاجتماع، بعد الأنس والنظرات المندفعة نحو المحددات الاعتبارية على شارة الاسم، نستطيع أخيراً العودة إلى كهوفنا، مطمئنين بالعزلة التي نشاركها آخرين. *نوين هو مؤلف رواية "المتعاطف" الفائزة بجائزة البوليتزر هذا العام عن فئة الأعمال الخيالية وكتاب التاريخ الثقافي "لا شيء يموت أبداً: فيتنام وذاكرة الحرب"، وقد تواجد في مهرجان لوس أنجلوس للكتب في التاسع من أبريل الماضي. ظهرت النسخة الأصلية لهذه المقالة في صحيفة لوس أنجلوس تايمز.