أغنياتنا الوطنية تاريخ مسجل ينبغي ألا نفرط فيه، وما أجمل أن يستثمر الفصيح منها في المدارس لترسّخ حب الوطن والانتماء إليه في نفوس الطلاب، بأن تحويها كتب القراءة والأناشيد.. الانتماء الوطني؛ انتساب الفرد للوطن فكرًا ومشاعرَ ووجدانًا، واعتزازا من خلال الالتزام بتعاليمه والثبات على منهجه. ومفهوم الانتماء الوطني وراثي يولد مع الفرد عبر ارتباطه بوالديه وبالأرض التي ولد فيها، كما يكون الانتماء مكتسبا؛لأنه ينمو بصورة أكبر من خلال مؤسسات المجتمع المتمثلة في المدرسة والأسرة والإعلام والمسجد. حبّ الوطن انتماء فريد وإحساس راقٍ وتضحية شريفة ووفاء كريم، فهو ليس مجرد لباس أو لهجة أو جنسية، إنه أسمى من كل هذا، إنه حب سامٍ، يمكن غرس معانيه في نفوس الأجيال بربطهم بهويتهم الوطنية، وتوعيتهم بالمخزون التاريخي والثقافي للوطن؛ باعتبارهما مكوناً من مكوناته الأساسية والراسخة. الوطن كما جاء في لسان العرب «المنزل تقيم به، وهو موطن الإنسان ومحله.. ووطن بالمكان وأوطن أقام.. وأوطنت الأرض ووطنتها توطيناً استوطنتها أي اتخذتها وطناً». وهذا المفهوم يقتضي ارتباطاً على نحو خاص بين الإنسان والمكان الذي يعيش فيه وينتمي إليه، وهو ذلك الانتماء الذي يقود حتماً إلى مفهوم المواطنة الذي هو أعم من مفهوم الجنسية التي قد تكتسب بالإقامة في بلد ما فترة أقلها خمس سنوات. تداعت إلى ذهني هذه المعاني وأنا أستمع إلى بعض الأغنيات والأناشيد الوطنية التي كتبها شعراء سعوديون، ولحنها وغناها موسيقيون ومطربون سعوديون مبدعون، تلك الأغنيات الوطنية رسخت في وجدان بعضنا، وعززت المشاعر الوطنية، فمن منا لا يذكر رائعة طلال مداح وطني الحبيب، التي كتبها عبدالرزاق بليلة وحوت كثيرا من المعاني الجميلة المتعلقة بظهور الإسلام في بلادنا، الذي جعلها مركز إشعاع سماوي للمسلمين كافة، ومنها: روحي وما ملكتْ يدايَ فداهُ وطني الحبيبْ وهل أُحِبُّ سواهُ في موطني بَزَغَتْ نِجُومُ نَبيهِ والمخلصونَ استشهدوا بحِمَاهُ في ظلِّ أرْضِكَ قد تَرَعْرَعَ أحمد وومشى مُنيباً دَاعياً مَولاهُ يَدعو إلى الدِّينِ الحَنيفِ بهَدْيهِ زالَ الظلامُ وعُدِّدَتْ دَعْواهُ في مكةٍ حَرمُ الهُدى وَبِطَيبَةٍ ذِكرى رَسُول ونُورِهِ وَهُداهُ ومن أجمل ما كتب في الوطن من كلمات ومعانٍ، قصيدة عنوانها (أغنية للوطن) للشاعر علي محمد صيقل، ولحنها وغناها المطرب الغائب ،الحاضر بهذه الرائعة محمد عمر التي تقول كلماتها: وَشْمٌ على ساعِدي نقشٌ على بَدَني وفي الفؤادِ وفي العينين يا وطني شمساً حملتك فوق الرأس فانسكبت مساحة ثرَّة الأضواء.. تغمرني قبَّلت فيك الثرى حباً .. وفوق فمي من اسمرار الثرى دفءٌ تملَّكَني وانداح في خافقي سحراً وتَرْنَمَةً وذكرياتٍ .. وآمالاً.. تضمدني قصيدتي .. أنتَ .. منذ البدءِ لحّنها أجدادي الشُّم، فانثالت إلى أذني ترنيمةٌ عذبة ُالألحان . فامتزجت أنغامُها في دمي بالدفءِ تفعمني غنيتها للرمالِ السمرِ .. في شغفٍ وللصواري .. وللأمواجِ ..والسفنِ لنخلةٍ.. حينما أسْمعتها اندهشتْ تمايلتْ وانثنتْ نحوي توشوشني ما أروعَ اللحن.. قالتْ. هزني طرباً فغنِّ لي .. غنِّ إنّ اللحنَ أطربني ضممتُها .. إنها رمزُ العطاءِ.. وفي جذورها عروةٌ وُثقى تؤصّلني يا موطني.. إنني أهواكَ في ولهٍ يا نكهةً حلوة ًتنسابُ في بدني أقسمتُ باللهِ لن أنساكَ يا حلُمي فإنْ سلوْتُك هيِّئ لي إذنْ كفني هذه القصيدة ليست نشيدًا وطنياً كالأناشيد الوطنية التي اعتدنا عليها، تلك التي تبدأ بمانشات عسكرية، فالثراء اللغوي، والصور الشعرية الجميلة، والفخامة الموسيقية، تلاعبٌ رومانسي تناغمَ مع الغناء التحريضي ليس على الحرب والنزال، بل تحريض على حب الوطن، بتقديم لوحة جمالية، وطنية بإحساس شاعري مرهف، صاغها الملحن/ المطرب محمد عمر لحنا عذبا ينساب للروح ويتغلغل في الوجدان. وللأسف فإن هذه القصيدة الجميلة لم يسعفها الحظ في البث في أعيادنا الوطنية. ومن أشعار غازي القصيبي الوطنية – رحمه الله -، رائعة: أجل نحن الحجاز ونحن نجد. فالقصيبي بوطنيته الصادقة تفاعل طوال مسيرته الشعرية مع كل أحداث الوطن، جاءت قصيجته إبان حرب الخليج الثانية، رداً على صدام عندما شكك بوحدتنا الوطنية، استخدم غازي في القصيدة ضمير المتكلمين (نحن) ليرد عليه بألسنة المواطنين جميعا؛ مؤكدا على البعد الوطني والتلاحم بين أبناء مناطق المملكة، بما شكل وحدة نادرة في هذا الزمن. ومن أبياتها التي لحنها وشدا بها محمد عبده قوله: أجل نحنُ الحجازُ ونحن نجدُ هنا مجدٌ لنا وهناك مجدُ ونحن جزيرةُ العربِ افتداها ويفديها غطارفةٌ وأسدُ ونحن شمالنا كبرٌ أشمُ ونحن جنوبنا كبرٌ أشدُ ونحن البيدُ راياتٌ لفهدٍ ونحن جميعُ من في البيد فهدُ وأجمل ما في القصيدة هو بيتها الختامي الذي أكد فيه الشاعر على الوحدة الوطنية والتلاحم الشعبي مع قيادة الوطن، فليس فوق ذلك تلاحم. (ونحن البيدُ راياتٌ لفهد ونحن جميعُ من في البيد فهدُ ). وأما الموسيقار سراج عمر فلا تزال رائعته "بلادي بلادي منار الهدى" راسخة في الوجدان، حاضرة في كل الاحتفالات الوطنية، منذ أن قدمها في نهاية السبعينيات الميلادية، التي صاغها شعرا فصيحا الشاعر اللبناني سعيد فياض، معبرا من خلالها عن حبه للوطن الذي عاش فيه سنوات طويلة كأحد أبنائه. بلادي بلادي منارُ الهدى ومهدُ البطولةِ عبرَ المدى عليها ومنها السلامُ ابتدا وفيها تألقَ فجرُ الندى حياتي لمجدِ بلادي فِدا بلادي بلادُ الإبا والشمم ومغنى المروءةِ منذ القدم يعانقُ فيها السماحُ الهمم وفيها تصونُ العهودُ الذمم ستبقى بلادي منار الأمم لتمنعَ عنها دياجي الظُلَم باسم المهيمنِ حامي العلم وعزمِ السيوفِ وهدي القلم بمكةَ صرحُ الهدى عُمِّرا ليبقى المدارَ المنيعَ الذُرا أعزَّ به الله أمّ القرى وطيبةُ حيث يَضُمُ الثرى رسولَ السلامِ لكلِ الورى يُرى كلُ شيءٍ بها أخضرا ونجدُ عرينُ أسودِ الشرى ستبقى لمجدِ العلا منبرا وقد أضاف الموسيقار سراج عمر في نهاية السبعينيات الميلادية بهذه الأغنية صوتا ولحانا، كثيرا من الحضور للغناء الوطني، إذ حققت هذه الأغنية الوطنية في شكلها المتكامل؛ كلماتٍ ولحناً وغناءَ، كثيراً من النجاح للأغنية الوطنية الجديدة حينذاك. إن هذه الأغنيات الوطنية وغيرها كثير مما كتب بالفصحى والعامية، رسائل تؤكّد أن الغناء الوطني في بلادنا صار نموذجا مختلفا، كلماتٍ وموسيقى وغناء تكتنفها عواطف متدفقة، ومشاعر سامية، أشبه ما تكون بمشاعر الأم وحنانها المنساب نحو بنيها، إنها ببساطة أغنيات تدخل العقل وتسكن في الوجدان وتستوطن المشاعر، هذا النوع من الأغنيات الوطنية لا يمحوها الزمن أبداً. أغنياتنا الوطنية تاريخ مسجل ينبغي ألا نفرط فيه، وما أجمل أن يستثمر الفصيح منها في المدارس لترسّخ حب الوطن والانتماء إليه في نفوس الطلاب، بأن تحويها كتب القراءة والأناشيد، بدلاً من بعض الأناشيد البائسة التي لا تربي فيهم ذوقا، ولا توقظ فيهم شعورًا وطنيا، ولا بأس من بثّ هذه الأغاني في المدارس في فترات فراغ الطلاب وحصص النشاط، لغرس حب الوطن في عقول الصغار منهم خاصة، قبل أن يتسلل إليها ذوو الأجندات المشبوهة، وأصحاب الفكر المتطرف. فالموسيقى تستند إلى نظام نغمي مألوف، وفطري في الأذن البشريه، ولهذا يعد تشكيل الوعي الجمالي لدى الطفل هدفاً تربويّاً أساسيّاً، وكان الشعر العربي قد " نشأ ملازمًا للغناء كما نشأ فن الشعر لدى باقي الأمم، ويُروى أن هوميروس الشاعر الكبير كان يلحن شعره ويغنيه، ويقال إن الأعشى أيضًا كان يتغنى بأشعاره، وسمي صنّاجة العرب، وفي هذا يقول حسان بن ثابت: تغنّ بالشعرِ إمّا كنت قائلَه إنّ الغناءَ لهذا الشعر مضمارُ " ختاما؛ يقول أحد علماء التربية " إن الجانب الإيقاعي عنصر أصيل في فن العربية الأوّل، ذلك الفن الذي اختص بالغنائية، وكان الوزن والقافية أبرز العناصر النمطية في حده المعروف، لذا يصبح الإحساس الموسيقي ضرورة، ليس فقط في تذوقه وتعليمه، ولكن أيضاً في تنميته والتنبؤ به. ولأنّ الإيقاع سمة لصيقة بنفس الطفل، وأكثر تأثيراً في مشاعره، فإنّ الطفل غالباً ما يعبر عن انفعاله في صورة (حس حركية) كالتصفيق، والتمايل والاهتزاز، بل كثيراً ما نلاحظه وهو يهمهم في لعبه الانفرادي، ويغني ويتفوه بكلمات مرتجلة، حتى قبل أن يدخل المدرسة".