ماذا يقرأ الشباب؟ سؤالٌ طرحه محرر "الرياض" على عينة عشوائية من الشباب السعودي المثقف، تنوعت إجاباتهم وإن ظلت هناك قواسم مشتركة بينهم.، هناك حضور للأدب والرواية، والفلسفة، والعلوم الإنسانية، والسياسة، والاقتصاد، والفكر الإسلامي، وهناك غياب تامٌ أو شبه تام للقراءة في كتب التراث التي سطرها العلماء والمؤرخون والأدباء على امتداد تاريخنا الثري علميا وأدبياً. للبحث عن أسباب عزوف الشباب عن قراءة كتب التراث، والعوامل المغرية لهم بالاطلاع عليه، توجهت "الرياض" بالسؤال إلى عدد من الباحثين والأكاديميين، وكانت النتيجة في هذا التحقيق: أسباب العزوف الباحث اللغوي محمد بن قرقور، يعد عزوف الشباب عن الكتب التراثية "آفة" يرجع أسبابها إلى ثلاثة مؤثرات: النشأة العاقة للكتب التراثية؛ فالشاب الذي لا يجد في محيطه الذي ينشأ فيه من يهتم بالقراءة والكتب لن تروض نفسه على قراءتها ولن ينساق قلبه إليها، وقد ثبت بالنظر والتجربة أن التوجيه بالعمل أبلغ أثرا وأطول عمرا وأسرع نفاذا وأيسر اقتداء من التوجيه بالقول. وأضاف: هناك ظن كاذب أن الكتب التراثية عسيرة الفهم متقعرة الألفاظ صعبة التراكيب متوغلة في المعاني، كما أن هناك اعتقادا لدى البعض بأن موضوعات الكتب التراثية سبب التخلف والرجعة وأنها مما عفا عليها الزمن، مبينا أن عمارة الأرض تكون بالعمل والعلم، والكتب موثقة للعلم، فهي عماد بناء الحضارة ولذا ساد أرباب الكتب التراثية لما يربو على عشرة قرون، ولما بدأ العزوف عن الكتب التراثية ظهر الخلل وتسلل الوهن وفي المقابل عرف غيرنا قيمة كتبنا التراثية فدرسوها وجردوها وحللوها وحفظوها فصاروا أعرف بها منا ولذا سادوا. صورة مشوهة من جهته يقول د.محمد الشهري: هناك طرفان من الشباب بينه وبين قراءة تراثنا العظيم حواجز وسدود، الطرف الأول: من ترسخت لديه صورة نمطية مشوهة للمثقف، فالمثقف لديه هو الشخص الذي يحضر المحافل الأدبية، ويقف خلف اللواقط وأمام الكاميرات، وعنده أسماء معينة معاصرة -غالبا- يقيد نفسه بالقراءة لها ولا يتجاوزها إلى أبعد من ذلك، هذا هو المثقف لديه، وربما كانت نظرته إلى كتب التراث نظرة متعالية لأنها عنده مجرد كتب صفراء خالية من أي شيء، وطرف آخر بالغ في الخوف من كتب التراث وتصور أن معرفته الحالية أقل من أن تمنحه القدرة على فهم كتب التراث والوصول إلى جواهرها فهو يزين بها مكتبته دون قدرة على الاقتراب منها. حائل معرفي ويرى الأكاديمي المختص في التاريخ، عبدالرحمن المفضلي، أن الحال ليست بتلك السوء، وأن الشباب المثقف يقرأ التراث، وهو في حاجة إليه، قائلا: حين نريد تعريف التراث بشكل موضوعي، نجد أنه كل ما خلّفه السلف من آثار علمية وفنية وأدبية، وما تراكم خلال الأزمنة من تقاليد وعادات وتجارب وخبرات وفنون وعلوم، وهو الصِّلة الذي يربط بين السابق واللاحق وبين أجيال الشعب الواحد أو الأمة الواحدة. وأضاف: في ظني أن إقبال القرّاء الشباب على قراءة التراث يعود إلى أنه كُتِبَ باللغة العربية التي ما زالت رغم تعاقب مئات السنين لغة حية نابضة متجددة قائمة على قواعدها الأولى التي كُتِبَ بها التراث، فصار من السهل على القارئ العربي أن يقرأ كتب التراث بكل سهولة، خلاف غيرها من اللغات، وهذه السهولة في قراءة كتب التراث حثت القارئ الشاب على قراءتها لعدم وجود حائل معرفي أو لغوي بينه وبينها. وأشار إلى ما قاله المفكر المغربي محمد عابد الجابري "أن القارئ العربي... مثقل بحاضره، يطلب السند في تراثه ويقرأ فيه آماله ورغباته، ويريد أن يجد فيه كل ما يفتقده في حاضره، سواء على صعيد الحلم أو صعيد الواقع"، مبينا أن كتب التراث كتب مليئة بالعلم والمعارف المتنوعة التي يحتاجها القارئ أياً كان توجهه المعرفي، وهي معرفة قائمة على أقصى درجات الأمانة العلمية التي تجعل القارئ يثق بشكل ما بما في هذه الكتب التراثية، فيُقبِلُ عليها وهو مطمئن لما سيجده. ذخيرة لغوية ولهدم الجدار يقول أستاذ اللغة العربية د.ياسر السلمي: الحاجز الذي بين الشباب اليوم وكتب اللغة والأدب يزيله علمهم بأن فيها متعةً في سردها وأخبارها، ففيها القصص والأخبار، وقصص الأمثال، وأيام العرب، وفيها ذخيرة لغويّة تقوّي القدرة على البيان والفصاحة، كما أنها تحوي العديد من القصص التي فيها من الأجوبة المسكتة والبيان العالي، وهي تكسب القارئ معرفة حياة العرب وطرق تفكيرهم، وأخبارهم. وأشار إلى أن الإكثار من قراءة كتب التراث يقرّب العربيّة من القارئ، ويقفه على البيان العالي الذي يجعله يتلذذ ببيان القرآن وفصاحته، وأن كثرة قراءتها قراءةً صحيحة قد تكسب صاحبها الملكة اللغويّة من غير حاجةٍ إلى تعلّم القواعد النحوية. الصاحب ساحب أما الباحث اللغوي محمد بن قرقور، فيصف بعض الاقتراخات لكسر الحاجز بين الشباب وبين كتب التراث، موصياً بمعرفة قيمة الكتب التراثية والوقوف على قدرها ووزنها وأنها حوت نوادر وفوائد، كما ينصح باتخاذ جليس أو أنيس يهوى هذه الكتب ويعرفها ويعرف قدرها، فالصاحب ساحب، وينصح "قرقور" بالبدء بقراءة ما يسهل هضمه ويسلي النفس ككتب الأدب والتاريخ والسير والتراجم والرقائق، وأخذ قدر يسير من القراءة بلا إطالة، وتحديد زمن قصير في اليوم والالتزام به بلا حيد عنه لا زيادة ولا تركا. جرأة متأنية بينما يجزم د.محمد الشهري أن المنقطعين عن مطالعة التراث لا يمكنهم أن يتصلوا به ويبلغوا بعض نفائسه إلا بالجرأة المتأنية، والصبر على آلام القراءة ومعاناتها وإزالة حواجز الأوهام والخروج من أسر القوالب وأغلالها، فالثقافة ليست مجرد ألقاب وأوسمة، وكتب التراث مهما اختلف أسلوبها عن أسلوب الكتابة المعاصر، لن تستعصي على من يحسن العربية ويملك أوائل المعرفة فيها، ولديه هذا الكم الهائل من مصادر المعرفة والبحث ليجد جواب ما يستعصي عليه. يكاد يقتصر اقتناء الكتب التراثية على المختصين