كانت «بيبي» الحسناء التي تقف متبخترة أمام عدسات المصورين، وهم يلتقطون لها أجمل الصور مرتدية أبهى الحلل والفساتين، كانت تشعر برتابة في حياتها، وكان الملل يأخذ منها مأخذا كبيرا، في الوقت الذي يتبع حسابها في «إنستغرام» أكثر من مليون معجب، ينتظرون أن يروا وجه حوريتهم المتسربلة بالضياء!. فاطمة البنوي، التي مثلت دور «بيبي» في فيلم محمود صباغ «بركة يُقابل بركة»، جسدت حال الفتاة السعودية التي تعيش في واقع افتراضي، متخيل، لا يوجد إلا خلف شاشة الهاتف المحمول الباردة، والتي لا تمنح أي دفء، أو أمان، أو محبة لمن يعانقها. هو عالم مصنوع عبر الوهم، أو لنقل، عالم موازي للحياة الواقعية التي يهرب منها كثيرون لحيوات يعتقدون أنها أفضل، وأنها الفردوس الذي يشتهون ويريدون، فإذا هي سراب لا نهاية له. هي صحراء، وإن أردت جليد، يفتقد لأي مشاعر من لحم ودم. «بيبي» وجدت سعادتها في تناول قطعة من الشاورما التي جلبها لها «بركة» من مطعم شعبي، لتجلس معه بالقرب من حبال الغسيل، على سطح منزل مهترئ، يشاهدون من عليائه حفل زفاف «العمدة»، فيما أنغام الفرح تعانق السماء. هي أيضا شعرت بالفرح والبهجة على ظهر مركب بسيط، مع بضعة عازفين احتضنوا آلاتهم الموسيقية أتى بهم «بركة» خصيصا للاحتفال بعيد ميلاد حبيبته. يضيع الكثيرون منا أوقاتهم بحثا عن السعادة في وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديدا في متابعة فيديوهات «سناب شات»، أو صور «إنستغرام». متنقلين من وهم لآخر، ومن خديعة لأخرى. ولذا، فإن ما يتحصلون عليه ليس إلا مزيدا من الكآبة والسوداوية. هذا الواقع الافتراضي، هو مصداق حقيقي لما كان يسميه مارتن هيدغر ب»الوجود الزائف». ذلك الوجود الذي يفتقد لأدنى اشتراطات المعرفة والعلم والحياة الحقيقية. وجود مجتزأ من سياقه، بل، منقلب عليه ومناف له في ذات الوقت، ومضاد لكُنه الحياة الطبيعية وسيرورتها. هذا «الوجود الزائف» مخاتل ومخادع لجمهور واسع جدا من المتابعين، الذين يغفلون عن كيف تصنع «الصورة»، وكيف يتم تقديم هذه البهجة وكأنها هي ذلك العسل الشهي الذي ينعم به صاحبه صباحا ومساء. ما يجعل هذا الوجود أكثر زيفا، أن صناعه في كثير منهم هم ذواتٌ نكرة، لا تمتلك أي مؤهلات مفاهيمية أو نفسية ولا خبرات اجتماعية أو علمية، وإنما صعدت فقط بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي، لتكون «شخصيات يقتدى بها» في زمن سريع، دون أي تفسير منطقي لهذه النجومية أو استحقاق لها. الحياة الحقيقية هي تلك التي يصارع فيها الواحد منا من أجل صناعة ذاته، وبناء مستقبله، ويكابد فيها مختلف الحالات. هي تلك الحياة التي يكون فيها الواحد منا يوما منتصرا وآخر منهزما. وهي أيضا تلك التي تفرحنا وتحزننا، وتأخذنا في دروبها الواسعة والضيقة. هذا «الهراء» الذي تصوره الهواتف الذكية، وتدعي أنه الحياة، هو كذبة تؤذي نفوس الملايين وتجعلهم أمام إحراجات عائلية ومجتمعية، وقبل ذلك تدخلهم في حالات من الكآبة والاضطراب النفسي، حين يقارنون حياتهم بحيوات الآخرين، فتراهم يهرولون بغية الوصول إلى تلك الجنة، فإذا هم محاصرون بالعدم المقيم!.