الوطن - السعودية "(الأنا) تنظر للسعادة على أنها شيء سيحدث في المستقبل، تقول لك في المستقبل ستشعر بالسعادة عندما تحقق وتقتني كذا وكذا، لأنها جشعة لا تشبع. تقول لك دائماً هذا لا يكفي، وهي بذلك تؤجل الإحساس بالسعادة للمستقبل" أعترف أني كنت حتى عهد قريب في كثير من الأحيان أشعر بالملل ورتابة الحياة، فيفوتني استشعار بهجة الحياة وأسأل نفسي عندما ينتابني هذا الشعور: هل هناك ما ينغص عليك حالك من مرض أو عجز أو فقر أو ابتلاء؟ فتكون الإجابة غالباً: لا. فأعجب من نفسي وأحاول أن أخرجها من حالة الضجر والملل وفقدان السعادة بتعداد نعم الله عليَّ واستشعارها وتذكر حال المرضى والفقراء والمساكين والمبتلين بأشد الابتلاءات، وأنجح تارة وأفشل أخرى في أن أعيد لحياتي البهجة والسعادة، وأعترف كذلك أنني لم أفطن للجاني الحقيقي وراء فقدان البهجة والسعادة إلا عندما بدأت رحلتي مع الذات وتعرفت على عدوي الحقيقي على (الأنا) التي فيَّ. أدركت أننا كما نملك بيتاً أو سيارة، فإن كل واحد منا كذلك يملك (الأنا) التي فيه، وكما أنك لست بيتك ولا سيارتك، فكذلك أنت لست (الأنا) التي فيك، (الأنا) هي الصورة الذهنية الوهمية التي رسمتها أنت لنفسك وظننت أنك هي، أشكالنا، ملكاتنا، ممتلكاتنا، شهاداتنا، أفكارنا، آراؤنا، حرفنا، مناصبنا، ومكانتنا الاجتماعية، ولكن كل هذا لست أنت. وإن كان منا من يشك في ذلك، فإنه سيتقن بهذه الحقيقية على فراش الموت، فالموت سيجردك ويعريك من كل شيء هو لست أنت لتبقى معك ذاتك الحقيقية، والتي هي نفسك وروحك التي هي من نفخة إلهية، كل ما نملكه عدا ذلك لا يعدو إلا أن يكون صوراً وأشكالاً تتغير وتتبدل ويبقى شيء واحد ثابت، ألا وهو ذاتك الحقيقية ونفسك التي ستحملها معك للدار الأبدية. ولكن كيف تجذب لنا الأنا التي بداخلنا التعاسة وتحرمنا السعادة.. لقد أدركت في رحلتي مع الذات أن (الأنا) التي فيَّ هي مصدر تعاستي وتعاستك عندما فهمت الأسس الافتراضية التي بنيت عليها (الأنا) واحتياجاتها التي قد تبدو للإدراك الحسي أنها احتياجات حقيقية إلى أقصى حد، إلا أنها في حقيقتها وهمية وخاطئة إلى أبعد حد. فما هي هذه الأسس الافتراضية التي تُنتج هذه الاحتياجات الوهمية وتؤدي إلى تعاسة البشرية؟ إن من أشد المفاهيم الخاطئة التي بنت (الأنا) أساساتها عليها هي مفهوم الانفصال، أي أن (الأنا) كيان منفصل عن كل ما حوله من الناس، بل ومن مصدر أعلى، وعليها أن تعمل باستقلالية تامة، هذا المفهوم الخاطئ يجلب على الأنا عندما تكون وحيداً، الوحشة والنزاع الداخلي، لأن الوحدة تجسد ل(الأنا) اعتقاد الانفصال، ولكن عندما يستيقظ الوعي في الإنسان فيعي خطأ هذا الاعتقاد ويؤمن أنه جزء من هذا الكون ومن قوة ومصدر أعلى أقرب إليه من حبل الوريد وعلى اتصال مع كل من حوله، فإن هذه الوحشة والنزاع الداخلي والخوف على الأنا يتبدد، والخوف من الوحدة يزول كذلك، وسيصبح تواصله مع كل من حوله من منطلق التقاء البهجة والسرور، وليس من منطلق إكمال نقص (الأنا) أو هربا من خوف الوحدة. اسأل نفسك: هل تخاف من الوحدة؟ هل تحس بعدم راحة وأنت وحيد؟ هل يمكنك أن تقضي الساعات الطوال وحيداً مع كتاب أو ورقة وقلم أو متأملاً في سكون وراحة وطمأنينة وسلام داخلي؟ إن (الأنا) التي فينا تدرك أنها صورة وهمية زائفة وأنها غير حقيقية، ولذلك فإنها تحاول تعويض هذا النقص بأن تسعى دائماً أن تكون على صواب، لأن أي خطأ يذكرها بزيفها وبما أنه ليس بمقدورنا أن نكون دائماً على صواب فإن (الأنا) تصبح مصدر تعاسة للإنسان. اسأل نفسك: كم مرة دخلت حواراً وأحسست بالحاجة الماسة للانتصار؟ وفي حالة الانهزام كيف شعرت؟ هل كنت راضياً بهذه الهزيمة؟ هل أحسست ببعض الاستياء والحزن؟ وكذلك بما أن (الأنا) التي فينا تدرك أنها صورة وهمية زائفة غير حقيقية فإن بقاءها ووجودها وقوتها تعتمد على مدى تقدير الآخرين لها والاعتراف والإعجاب بها، ولذلك تجبرنا بصورة قهرية على مستوى اللا شعور أن نسعى وراء القبول والاهتمام والإعجاب والاستحسان من الآخرين، وبدون ذلك لا يصبح ل(الأنا) وجود، وإن لم تحصل عليه (الأنا) أشعرتك بالدونية وجلبت لك التعاسة والكآبة. كيف تشعر إن لم تحصل على التقدير والاحترام الذي تستحقه؟ أو الاستحسان لعمل قد عملته؟ وكيف شعرت حيال هذا التجاهل؟ حقاً على قدر ما تكون (الأنا) كبيرة على قدر ما تحرمنا السعادة الحقيقية. ولأن (الأنا) تدرك أنها وهمية وغير حقيقية فإنها تشعر بفقدان السيطرة والتحكم الداخلي، وتحاول أن تعوض الإحساس بفقدان السيطرة على المستوى اللا واعي بمحاولة فرض التحكم الخارجي بالسيطرة على الآخرين وعلى البيئة والحياة بشكل عام، وبما أن هذا مستحيل، فيصبح هذا السعى وراء السراب هو مصدر شقاء مستمر وتعاسة دائمة، وبإدراك الإنسان أن الذي يعمل هو (الأنا) وإعادة الثقة الداخلية بالالتحام بالذات الحقيقية، يدرك الإنسان أنه لا يحتاج أن يتحكم فيما يحدث خارجه، فهو في سلام داخلي وثقة بالنفس. اسأل نفسك: هل تشعر بالإحباط المستمر والتعاسة لعدم قدرتك على التحكم في كثير مما يدور حولك؟ (الأنا) تنظر للسعادة على أنها شيء سيحدث في المستقبل، تقول لك في المستقبل ستشعر بالسعادة عندما تحقق كذا وكذا وتقتني كذا وكذا أو تصبح ثروتك كذا وكذا، لأنها جشعة لا تشبع. تقول لك دائماً هذا لا يكفي أريد المزيد والمزيد، وهي بذلك تؤجل الإحساس بالسعادة للمستقبل ولا تعترف بلحظة الآن ولا بهجة وسعادة الوجود في لحظة الآن، (الأنا) لا تدرك أن السعادة الحقيقية تكمن في التصالح الداخلي مع اللحظة الراهنة (الآن) والتي هي الحياة وبهجة الحياة وطاقة الحياة، والحقيقة الوحيدة، فالمستقبل تصور وتخيل لما يمكن أن يحدث في لحظة ما في المستقبل، وعندما تأتي هذه اللحظة وتصبح حقيقة لا تأتي إلا بصورة لحظة (الآن)، والتي إن تصالحت معها فستعجب بما يمكن أن تحققه طاقة الحياة من خلالك، ومن رضي فله الرضا، وهذا لا يدرك إلا بوعي من ذاتك الحقيقية. وفي مقال قادم بإذن الله سنحاول أن نستكشف سبب تعاسة معظم أهل الأرض، وأن نبحث عن المصدر الحقيقي للسعادة، ولماذا يجهله كثير من الناس، وكيف يمكن أن نصل إلى فرح الكينونة وفرح الروح.