عندما يغيب اليقين؛ يغيب الجزم والتعصب والحدود القطعية أو القاطعة، ومن ثم، تسود روح الحرية الليبرالية في مجال الخيارات الفردية، وتتراجع إلى حد كبير فُرص الإلزام القسري في الفضاء العام لا يمكن أن يتحقق الإنسان - وُجُودًا – إلا في مسيرة تحقق حريته فيه وله، تلك الحرية الشاملة التي لا تعني انعتاقه من أسر السلطات القسرية الطارئة على وجوده الطبيعي فحسب، وإنما تعني – أيضا – تحرره – بأكبر قدر ممكن – من أسر الطبيعة المادية المشروط بها (طبيعته في وجوده المادي، والطبيعة من حوله)، بل وتحرره من أسر نفسه/ أسر وعيه (بكل ما ينطوي عليه من ذكريات، وتخيلات، وآمال، وتطلعات، تخص الماضي، أو الحاضر والمستقبل)؛ وصولا إلى إبداعِ وُجوده الحُر، إبداعا ناميا/مستمرا؛ بلا أفق مشروط سلفا، وانتهاء؛ بلا نهاية – من خلال الإبداع التحرري - إلى إبداع الإنسان. الإنسان هو حُريّة؛ وإلا فلا شيء. أي لا شيء يبقى منه بعد حُرّيته إلا وجوده المادي المحكوم بالحتمية الخالصة، والذي هو – وفقا لذلك – انحطاط عن مرتبة الوجود الحيواني الذي يَبْتدع حُرّيته، ولكن في حدود محدودية المعطى العقلي الذي يتوفر عليه. وهذا لا يعني ارتباط التحقق الإنساني بالحرية فحسب، وإنما يعني ارتباط الحرية ذاتها بمستويات النمو العقلي أيضا، ذلك النمو العقلي المشروط بالحرية ابتداء وانتهاء. كل هذا يقودنا إلى أهمية تلك النظريات التحررية التي تجد أسمى صورها وضوحا في التحرر الليبرالي؛ لأنه هو التحرر الذي يبدأ من الفرد، أي من الوجود الحقيقي المتعين للإنسان، إضافة إلى كونه الوجود السابق لكل صور الإضافات الجمعية التي تبنى عليها كل الدعاوى الكبرى التي ترفع راية التحرر العام، والتي إن حررت المجموع – اسماً وعلامة – فهي تأسر وَحَداته الصغرى (الأفراد)، ابتداء من التأطير الهُويّاتي (الماوراء إنساني) لهذا المجموع، وانتهاء بالمصادرة الفعلية لكثير من أبعاد الوجود الفردي/الوجود المتعين. لكن، وكما ذكرت في المقال السابق، فالتحرر الليبرالي الذي يسعى لتحقيق الحرية الإنسانية في مدى وجودها الحقيقي: الفردي المباشر/المتعين، لا يمتلك تحقيق ذلك بمعزل عن التفاعل الجدلي مع علائق الإنسان وارتباطاته المادية والمعنوية/العقلية. وكنت قد أكدت وشرحت كيف أن الحرية الليبرالية تنفعل وتتفاعل مع مستويات ثلاثة: "المعقول العقلي"، و"المعقول العملي"، و"المعقول النصي" التي تَتَخلّق الحرية الليبرالية/الحرية الفردية بها، ومن خلالها يتم ابتداع الإنسان، أي خلق الإنسان في الإنسان. وإذا كان "المعقول النصي" هو أحَدَ مُثلّث الجدلية التي ذكرتها، فإن كثيرين ربطوا ذلك بمحض ورود النص سماعا، أي النص بدلالته الظاهرية المجردة من كل السياقات. وهذا ما لم أُرِدْه بداهة، إذ لو أردت ذلك لقلت: "النص"؛ دونما إضافة أو صفة مُخَصِّصة، بينما قلت متعمدا: "المعقول النصي"، وبينهما فقر كبير وخطير؛ لأن التعامل البدائي/الحشوي/الظاهري مع النصوص المُفَرَّدة/المُبَعثرة؛ يخرج – بداهة – بالنصوص من "معقوليتها" المفترضة (المعقولية المتضمنة في الدلالات الكلية الناتجة عن تفعيل الجزئي في الكلي) التي تجعل منها إسهاما في مسيرة التحقق الإنساني المتضمن في الحرية، إلى أن تكون على الضد من ذلك، أي تصبح مجرد عُصيّ في دواليب هذه المسيرة. هذا في أحسن الأحوال، وأما في أسوئها فقد تتحول النصوصية إلى أداة لشرعنة سحق البشر بالتفقير والظلم والطغيان، بل إلى أداة مباشرة لنحر البشر وسحلهم وحرقهم؛ كما رأينا ذلك صريحا في أعمال "القاعدة" و"النصرة" و"الداعش" و"بوكوحرام"، وكما رأيناه ضمنيا في نصوص المتماهين فكريا مع هؤلاء. إذن، مرادنا تحديدا هو: "المعقول النصي"؛ لا "النصوصية" الآلية المنفصلة عن الإنسان، وعن التاريخ/الواقع. المعقول النصي هو (النص) منظورا إليه من خلال العقل، أو هو (العقل) منفعلا بالنص، وفاعلا فيه. وهنا، سيسألني كثيرون: إذا كان الأمر كذلك؛ كيف نقطع المسافة - الحاسمة وَعْياً - بين "النص"، وبين "معقوليته"؟ ليس من اليسير الإجابة عن هذا السؤال في صفحتين أو ثلاث من هذا المقال، بل إن الإجابة الوافية لتتعذر حتى في تعدد الكتب وتنوع الطروحات؛ لا لاتساع الموضوع وتشعبه فقط، وإنما لأنه ميدان اجتهاد ينفتح على فضاء تأويلي لا ينتهي أبدا؛ ما دام النص، وما دام الإنسان (الواعي بالنص). لكن، وبأي حال، سأحاول مقاربة هذه المفردة: "المعقول النصي" بأكبر قدر من التبسيط والاختصار – المُخل أحيانا -، وبأكبر قدر من التوضيح الممكن. لا يمكن إنتاج الدلالة المتضمنة لمعقولية النص دون؛ ربط عملية الإنتاج بالمثلث الذي يكوّن النص أحد محاوره، أقصد مثلث: الإنسان/الذات المُفكّرة، والنص، والواقع/التاريخ (التاريخ كصيرورة). هذا المثلث ليس ضروريا لفهم/إنتاج "معقولية النص" فحسب، وإنما هو ضروري لوجود النص أصلا؛ إذ لا نص خارج الوعي الذي يخلقه وجودا ذهنيا، ومن ثم لغويا، كما لا وجود للنص خارج الواقع/التاريخ، الذي يعكس الوجه الآخر للعلامة النصية/الدال، من حيث هو المشار إليه بنظام العلامات، أي المدلول. أولا: نجد أن النص لا يتحدد بالجملة النصوصية المفردة، أيا كانت قدسيتها، بل النص هو السردية النصوصية التي تتضمن بالضرورة مجموعة نصوص: نصوص مصاحبة، مؤكدة، أو مُؤوّلة، أو معترضة/مضادة. كما يدخل في النَّصيّة – من حيث العموم – تلك "التجارب التاريخية" التي زعمت لنفسها، أو زعم لها مريدوها، أنها تقارع المقول النصي في إنتاج الدلالة وفي تحديدها وتكييفها؛ بحيث أصبحت بذاتها مشاهد/نصوصا قابلة للقراءة ك"النصوص المقولة" تماما، أي أنه لم تعد مجرد تجارب تأويلية على مستوى – وفي حدود – الفعل الإنساني المقارب للنص المؤسس. ثانيا: الإنسان/الذات المفكرة. الذات المفكرة هي التي تخلق الوجود الحقيقي للنص من خلال الوعي به. وطبعا، الإنسان هنا، هو الإنسان الفاعل الحر الذي يُمثّل القدرة على الخروج من الحلقة المفرغة للحتمية الطبيعية. ولهذا، فهو ليس وجودا ناجزا مكتملا، ومكتفيا بذاته، بل على العكس من ذلك، هو يتحقق إنسانا بحجم اتساع المسافة التي قطعها بين وجوده الطبيعي، ووجوده المتجاوز للطبيعي. إن هذه الذات المفكرة التي نؤكد عليها هنا، لا يمكن أن تنتج دلالة قارّة؛ لأن كل دلالة منتجة تفترض لنفسها اكتمال الصلاحية بالقفز على شرطي الزمان المكان، هي دلالة منتهية الصلاحية بمجرد دعوى الكمال؛ لأن تلك الدعوى التي تتضمن ادعاء (توقف النمو/انقطاع الصيرورة النامية) في لحظة ما، هي دعوى تصنع لحظة الموت، موت الذات، وموت النص. إن الفاعل الإنساني، الذي نرى أنه هو الأهم في هذا المثلث النصوصي، يفرض "التحول المستمر" للدلالة النصوصية، من زاوية كونه متحولا أساسا، قبل أن يفرضه من خلال علاقاته الاشتراطية بالأبعاد المتحولة الأخرى. وبصورة أوضح، نقول: إن الذات المفكرة تنطوي على الوعي المتحول حتما؛ لأنها – أولا - تتكون من صيرورة تاريخية، وبيولوجية، وسيكولوجية متحولة؛ أيا كان مقدار هذا التحول، وثانيا؛ لأنها مشروطة بشروط واقعية، آنية، مباشرة، ولكنها شروط متغيرة لتغير الواقع المادي الذي تصدر عنه، وثالثا؛ لأنها تستوعب الوجود من خلال أفكار متغيرة؛ مهما بدت جامدة؛ فالجمود نسبي في كل الأحوال. ورابعا؛ لأن الشروط الواقعية المتغيرة من جهة، والأفكار المتغيرة من جهة أخرى؛ تخلقان أفكارا متغيرة، تُغاير/تُباين هذه وتلك، ويخرج من خلال تفاعلها الجدلي، في سياقها التناقضي، متغيرات نوعية، تُعيد دورة التغيّر المستمر، وتؤكد على تحولات الدلالة من خلال تحولات الإنسان/الذات المفكرة، في سياق التاريخ/الواقع. ثالثا: الواقع. والواقع الذي نضعه هنا أحد أركان المثلث المسهم في إنتاج النص، ليس هو الواقع البسيط المتمظهر وجودا ماديا فحسب، بل نقصد على وجه التحديد: الواقع المركب الذي يساوي: الذوات المفكرة (الإنسان الفاعل/المفكر، من حيث هو نفسه جزء من الواقع الموضوعي الذي يعاينه) + الأفكار (التي تشكل أفق الوعي السائد في حدود ذلك الواقع) + الوقائع المادية (المادة الصامتة كمعطى أولي، يحكم – بدرجة ما – الأحداث، إضافة إلى الأحداث ذاتها). وفي هذا السياق لا يجوز أن ننسى أن الواقع الذي يُشكّل المحصلة النهائية لكل هذه العناصر المتفاعلة هو جزء من إنتاج النص، النص الذي نستعيده مجددا على ضوء هذا الواقع الجديد، كما أنه – أي الواقع – جزء من إنتاج الذات المفكرة في تاريخها القريب والبعيد. فالذات المفكرة تستعيد واقعا أسهمت في خلقه سلفا (من حيث هي ذات تضرب في عمق التاريخ الذي يصنعها؛ بقدر ما تصنعه)، في الوقت الذي تحاول فيه توظيف هذا الواقع لخلق دلالة النص، تلك الدلالة التي يراد لها أن تفعل وتنفعل بهذا الواقع، عبر الوسيط الإنساني الذي ما أن يخوض غمار هذا التجربة التأويلية المعقدة؛ حتى يكون قد خضع لتحولات نوعية في أفق الوعي، تستلزم دورة أخرى من التفاعل التأويلي.. وهكذا دواليك. هكذا، وباختصار شديد، رأينا كيف أن "المعقول النصي" هو دلالة مُعَقْلنَة، نامية، متحولة، تنتج عن تفاعل مركب بين الإنسان والنص والواقع/التاريخ، وليس هو "النص" في حضوره الظاهري الجامد ذي البعد الواحد. ف"الذات المفكرة" هي الذات الحرة التي تُبدع ذاتها، كما تُبدِع واقعها، من خلال إبداعها للدلالة النصية؛ ما يعني أنها ليست تلك "الذات المُتَذكّرة" المُسْتَعْبَدة لمفهوم أولي بسيط وساذج للنص المنقول. وبناء على كل ما سبق؛ يمكن القول إن الذات المفكرة تقرأ النص في مستويات ثلاثة تتفاعل في النهاية فيما بينها: 1 الذات المفكرة تقرأ النص عبر وسيط النصوص القولية المصاحبة والأحداث التاريخية المستقرة كشواهد نصوصية. 2 الذات المفكرة تقرأ النص من خلال التطورات النوعية في أفق الوعي (تطور النظام المعرفي بما فيه من نظريات كلية، ومعلومات جزئية..إلخ). 3 الذات المفكرة تقرأ النص من خلال الواقع ذاته (الواقع بأناسه، وبأفكاره، وبماديته، وبوقائعه التي هي نتاج كل ذلك). والقراءة الأخيرة (ولا أقول:النهائية) هي القراءة المركبة من تفاعل هذه القراءات التي لا تعدو أن تكون ظنية ونسبية وظرفية، تبتعد عن اليقين بدرجة ما، وبالتالي، فمن الأولى أن تكون هي – أي القراءة الأخيرة - ظنية ونسبية وظرفية تبتعد عن اليقين درجة أخرى مضافة. وعندما يغيب اليقين؛ يغيب الجزم والتعصب والحدود القطعية أو القاطعة، ومن ثم، تسود روح الحرية الليبرالية في مجال الخيارات الفردية، وتتراجع – إلى حد كبير - فُرص الإلزام القسري في الفضاء العام.