عُرض الفيلم الفرنسي «قانون السوق-La Loi Du Marche» أو «معيار رجل» حسب العنوان الإنجليزي «The Measure of a Man»، منذ عدة أشهر في الولاياتالمتحدة وبريطانيا، وكان الفيلم قد حاز على جائزة أفضل ممثل في مهرجان كان للعام الماضي، كما حاز أيضاً على جائزة السيزار الفرنسية كأفضل ممثل وهي الجائزة الأهم على مستوى فرنسا. وقد نال الفيلم إعجاباً نقدياً واسعاً بعد عرضه، ولا عجب في ذلك، فمن خلال شخصية بطل الفيلم، تناول المخرج ستيفان بريزيه ما يمر به الكثير من الأوربيين في ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية، وربما لا يكون الأوربيون وحدهم هم من يمثلهم البطل وإنما معظم من يجاهدون في عالمنا المعاصر من أجل لقمة العيش. يروي الفيلم قصة الخمسيني تيري -فينسنت ليندون- الذي يعاني من البطالة بعد أن تم تسريحه والعديد من الموظفين من الشركة التي يعمل بها. نراه في البداية مع مستشار له في قسم الضمان الاجتماعي يخبره فيه بأن الدورة التي أخذها لعدة شهور للتدريب على قيادة شاحنة، لن تنفعه في الوظيفة لأن الشركات والمصانع تريد شخصاً له خبرة في هذا المجال، فيما تيري يشتكي بأنه أضاع أربعة أشهر في شيء بلا فائدة بعد أن نصحه قسم الضمان الاجتماعي نفسه بذلك. تيري يريد العمل، فهو رجل مسؤول عن أسرة ولديه ابن من ذوي الاحتياجات الخاصة، ولا يستكين لوضعه الحالي الذي يؤرقه، فلديه رغبة جادة في العمل. لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فمشهد تلو الآخر، يرينا ما يتعرض له تيري من مواقف غير إنسانية، بدءاً بالمقابلة الشخصية التي يجريها مع أحدهم عبر سكايب حيث لا نرى إلا تيري، والطرف الآخر يخبره بأنه فيما لو تم قبوله فستكون الوظيفة أقل من وظيفته السابقة، وبعد أن يوافق، يستمر الشخص في الحديث بشكل مهذب ولكنه أيضاً محبط جداً، فيعلق على سوء كتابة سيرته الذاتية، يليه دورة يحضرها ويعرض المدرب على الشاشة مقابلة مصورة لتيري هو يرد على أسئلة المقابلة الشخصية، ويناقش زملاءه سوء أدائه وطريقة رده وتعابير وجهه وغيرها من الأمور. نعايش تيري في المواقف التي يتعرض لها في سبيل الحصول على وظيفة، وهو ما يحدث فجأة وبدون مقدمات لنراه مرة أخرى يتعرض لمساءلة أخلاقية داخلية بينه وبين نفسه، بعد أن يصبح أداة لنهش الآخرين بنفس الطريقة التي تم استلابه من كرامته بها. الفيلم يسير إلى حد كبير على خطى الأخوين داردين، فهناك الكثير مما يذكر بسينماهم، ومنها طريقة التصوير بكاميرا محمولة على الكتف، مما يوحي لنا بأننا أمام فيلم وثائقي، والتراجيديا الخفية التي تتسلل خلسة للمشاهد، حيث يشعر من يشاهد المواقف التي يتعرض لها تيري بعدم الارتياح، فهناك كرامة شخص تنتهك وإن كان بطريقة شديدة التهذيب، وهو مما يحسب للفيلم بكل تأكيد. لكن الثقل الحقيقي يكمن في أداء ليندون. فهناك مشاهد كثيرة لا يتكلم فيها، لكن نظراته وملامح وجهه كفيلة بنقل الكثير من المشاعر. فتيري شخصية لا يملك من يشاهد الفيلم إلا أن يتعاطف معها حتى النهاية، وليندون ينجح في كل مشهد بأن يسرق الكاميرا من أي شخص آخر، فلا يشاهد إلا هو، رغم أن أداءه خال من أي افتعال، بل يتميز بالصدق والعفوية العالية، ولذلك كان من الطبيعي أن تذهب معظم الجوائز التي حصل عليها الفيلم إلى آدائه الجدير بكل التكريم. «قانون السوق» فيلم ينقل معاناة كل من يرغب في الالتحاق بسوق متطلب ومتغير وقاس في تعاملاته، وهي معاناة تكاد تكون عالمية حالياً؛ وهي تشير إلى أن من يعاني من البطالة في كثير من الأحيان ليس بالضرورة شخصاً كسولاً وإنما شخص طبيعي بملامح إنسانية له قدر معين على الاحتمال.