لم تكد تحمله قدماه المنهكتان وهما تختطان الأرض صوب المواجهة الشريفة متكئا على عصا أوهنها الزمن حتى أخذه الشوق لائذا بالقبر الشريف. خارت قواه فاستجمعها بقلبه ليوادع الحبيب متمتما تخنقه العبرات بعد أن جاوره لأيام "السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، أشهد أنك قد أديت الأمانة، ونصحت الأمة..". كلمات سابقتها دمعات حرى جللها السن والمرض، صورة رسمها حاج هندي ولونتها ظروف الحياة الصعبة، فصول شاقة من الكدح والعناء والتعب انتهت بتحقيق أمنية "الزيارة"، فكان آخر العهد أقدس بقاع الدنيا قبيل الانضواء لقافلة الحجيج الميممة للبلد الحرام، بعد أن سبقتهم روحه مستسلمة لأمر الله، ليبقى الجوار الذي تمناه خالدا بمواراة جسده في بقيع الغرقد، على أمتار معدودة عمن عاش حياته مهتديا بعطر سيرته. يروي أحد المرافقين له والعارفين به كيف توضأ المسن الراحل بطهر الإيمان، وتاقت روحه شغفا بطيبة الطيبة، حتى استرق آخر ورقات العمر ليعيش حلم الزيارة، فكانت تفاصيلها محراب النبي الأعظم ومنبره الطاهر وروضته الشريفة وحجرات أزواجه أمهات المؤمنين، والمواجهة الشريفة التي استحضر قبالتها كيف يرد عليه خير الخلق ونبي الرحمة السلام لتبتل لحيته الكثة تترى بالدموع وتمتلئ روحه الطيبة بالنفحات الزكية، مستدعيا حياة عبقها المكاشفة، بعد أن تسارعت خطى الأيام وتسابقت لحظات العمر، وطويت جميع مراحل الحياة، إنه عمر دون باقي العمر، لامست لحظاته شغاف قلبه فثارت مشاعره الصادقة لتطوي سجلا طويلا من العمر كان ختامه ذكريات سيخلدها لزمان في مكان ستظل تجلياته باقية تروي لكل قادم قصصا من الحب الإيماني، والعشق الروحاني الذي سرى في قلوب المؤمنين منذ بعثة النبي الخاتم وحتى يرث الله الأرض. وفي ذات المكان "المسجد النبوي الشريف"، ما يجعلك حائرا من مواقف وصور ينقلها لك من حرم نعمة البصر، حاج مصري كفيف أدرك من روحانية الحرم الشريف وفيوضه ما لم يدركه كثير من المبصرين، فالتزم جانبا قرب إحدى الاسطوانات النبوية مستشعرا بوجدانه قدسية المكان يسبح ويستغفر ويحمد الله تعالى أن يسر له أداء الزيارة. كان هذا الشاب الكفيف يصف أجزاء الحرم بدقة، ويحدد مكانه منه ويقول: "لم تكن الكتب التي تقرأ على مسامعي والحكايات التي أسمعها أو ما يبثه المذياع فقط، ما جعلني أعيش هذه الأجواء، بل قلبي كان شغوفا بها أكثر، وكنت أنطرح لاهجا متضرعا أن يهيئ الله لي الحج وزيارة الحرم الشريف والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت روحي تطوف أرجاء الحرمين الشريفين قبل قدومي ببدني". وبقدر ذهول كل من يستمع لوصفه الدقيق فإنه سرعان ما يزول العجب إذا ما عرفت أنه حافظ لكتاب الله ندي الصوت به عجيب الصلة والثقة هائم بأنوار الإيمان وقدسية المكان، زائر هزه الشوق فلم ينتظر طويلا حتى دعاه القدر لأداء المناسك، يصف تجليات المكان ومعالمه المحاريب الثلاثة، خوخة الصديق، الأسطوانات، الأبواب، القباب، الدكات، البناء والإعمار، والتوسعات المتعاقبة. «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة»