طول عمري، أنظر للمكتبة باعتبارها شفاء للروح، ومساحة من البراح، أقابل فيها أهل الغبطة، والعوامين من أصحاب الكتب الذين أخذوني يوما ناحية الدهشة، وأطلعوني علي ميراث الانسان الباقي! عشت طول عمري أنظر للمكتبة بوجل الخائف، من الخفي، والمجهول، ومن المقدر والمكتوب، ذلك الذي يصادفني بين السطور، بالرغم من أن المكتبة طوال العمر هي الرفيق لزمن القرية، وزمن المدينة. كيف يمكننا انتزاع معارفنا من فوق أرفف تحمل علي عاتقها مصائر وحيوات بشر عاشوا، ومضوا حيث وجه الله القدير؟ للغلام الذي كانه، ذائقة، ورغبة البحث عن الورق القديم، وتأمل خطوطه قبل أن يفك الخط، ويعرف الأبجدية، ويتشمم السطور في الأركان، وبواقي الجرائد، ويتأمل كتبا صغيرة في حجم كف اليد. كان كتاب سيّدنا الملاذ الأول. قبضت علي كفك جدة عجوز مثل ضريح، وسحبتك من طوق جلبابك، ورمتك تحت قدمي سيدنا شيخ الكتاب. صرخت مستغيثة: سقانا المر. شيطان وساكن الدار. هو خادمك وحلالك. حفظه المصحف. ان اعلن العصيان اكويه بالحديد والنار. انتبهت لترتيل العيال. فشع النور من مكان لا يعرفه. فارقت زعيق جدتي، وغاب عني وجه الشيخ الكفيف لانني سقطت بلا ارادة من حلاوة الترتيل، والعيال ينغمون الحروف وهم يقرأون الأيات بصوت حسن، وكأنني أسمع صوت ينبوع ما يتدفق في رواق المسجد الكبير. ساعتها شع النور بقلبي اكثر واكثر ورأيت في خطفة وعي أول الطريق. في يوم أرسلني قريبي، مدرس الابتدائي، الأستاذ ابراهيم حبيب، اشتري له الجرايد. وحين عدت ودخلت بيته، ثم الي حجرة مكتبه لمحت علي الحائط رفوفا مثبته وعليها بعض الكتب. كانت المرة الأولي التي اشاهد تلك الكتب. وعندما سألته، نظر ناحيتي وأنا أقف أسفل الرفوف. وقال: دي مكتبه. درت أتامل كعوب الكتب، وأسحب كتابا وأقرأ عنوانه. كنت بدأت القراءة. وفك الخط، وأسطر كلمات. مددت يدي وسحبت كتابا كان ملخصا لحكايات "الف ليلة وليله". اخذته من الأستاذ، ومضيت، وعلي النهر جلست لأقرأ الكتاب.. إنشوي قلبي بالدهشة، وحلاوة الاكتشاف. وعشت لحظات وقد اختلطت علي الأمور، وركبني الف عفريت وعفريت وشعرت بمشاعر جديدة لم تنتابني من قبل، وانسحبت روحي مني وتركتني. قصة "بدر وقمر الزمان" رحلات السندباد. الأبواب المغلقة علي أسرارها. كنوز تضوي بالمرجان واللولي وحجر الفيروز في حبات مثل عين القط. قصص العشق والموت. والجنيات المحلقة باجنحة محصنه بالطلاسم والكتابة السرية، وصوت شهر زاد مثل رنين الذهب في ضوء قنديل بنور أخضر. القت بي الليالي إلي بر القراءة، وقريتي لا تعرف الكتب. عالم ثقافته تكونت من خطبة الجمعة، ودرس دلائل الخيرات، وتلك الحكايات الشفاهية التي تقص علي المصاطب في ليالي الحصاد. أخبرني المدرس: ان كنت تحب القراءة فأمامك مكتبة البلدية بالمركز. توجهت الي المركز – المدينة التي تتبعها القرية – وهناك التقيت بمكتبة البلدية. كانت الثقافة حاضرة في مصر في ذلك الزمان. اهتموا بها وأقاموا لها مكتبات علي الطراز الأوربي. كانت للمعرفة مقام وشيخ وأقطاب، وكان لكل مركز مكتبتة. والمكتبة علي شارع المدينة الرئيسي. مبني علي الطراز الباروكي بأعمدة وشرفات ورءوس من الجص برأس آلهة وقواد، وعلي الواجهة تماثيل واقفة لفلاسفة ومغنيات. دخلت الصالة والغرف مزدحمة بالكتب من الأرض حتي السقف. صور لمصر القديمة والحديثة. أشعار مكتوبة بخط اليد مذهبة ولامعة، مزهوة بقدمها، وصورة في الركن لرفاعة رافع الطهطاوي وطه حسين وعلي مبارك والعقاد وغيرهم. عشت سنواتي الأولي بين حجراتها في ذلك الزمن. أحببت توفيق الحكيم بالبيرية على رأسه، قابضا عليها بكفه لا أنسي مسرحياته أو حكاياته عن باريس، وروايته المذهلة عودة الروح. تواترت الأسماء طه حسين والعقاد وحسين فوزى ويحيى حقى ثم نجيب محفوظ فيوسف أدريس، هؤلاء هم المؤسسون العظام الذين قدموا لنا مجلات الكاتب المصرى والرسالة والثقافة والهلال وصنوف الأدب والفلسفة والترجمات التى كانت تصل من بيروت حين تعرفنا على شكسبير وديكنز وهوجو وأندريه مارلو. ودويستوفسكى وتشيكوف وليوتو لستوى. وفوكنر وشتاينيك وهيمنجواى. كانت للمكتبة فى تلك الأيام عبق يصلنى حين أدخلها، والظلال فى أخيلة تتبادل الهمس. لم تكن الرائحة رائحة ورق، أو قدم لكنها كانت رائحة بشر قادمين عبر الزمن ليسكنوا هنا. تسكن المكتبات الذاكرة... كلما أوغل بنا الزمن تذكرنا أول الدرج الذي نصعد عليه حيث مكان الكتب. أصبحت مأوي، والعقل يطرح أول أسئلته، والقلب ينفتح علي الدنيا، ويشاهد في الاركان العجوز والبحر وايفان الرهيب وهاملت وذلك الكهل يرضع ثدي زوجة ابنه مقاوماً الجوع في رواية شتاينبك. لم يكن القروي المراهق وهو يخطو علي الدرب يعرف أن الأيام ستلقي في طريقة، وفي مكتبة قصر الثقافة بمدينة المحلة الكبري بهؤلاء: نصر حامد أبوزيد. جابر عصفور. محمد المنسي قنديل. محمد صالح. فريد ابو سعده. محمد المخزنجي. جار النبي الحلو. محمد عفيفي مطر. هناك التقينا، وكانت المكتبة مأوي لأبناء المدينة وأبنا القري، وكانت الورشة التي من خلالها طرحنا السؤال. نادت القاهرة. ارتحلنا وجدنا الفنون والآداب والسياسة، وصوت محفوظ وادريس وأول بشاير جيل الستينيات. اشتاقت الروح للرحيل، وبالقلب أسماء: دار الكتب. الهيئة العامة للكتاب. فرانكلين. مكتبات الجامعات. الثقافة الجماهيرية ودور النشر. هاجرت، وكنت أول المهاجرين من رفقة العمر. تحلقت حول نجيب محفوظ مع أول طلائع جيل الستينيات، وانفتحت أمامي أبواب الثقافة علي المعرفة والجديد، وصوت الثورة حينئذ ينطلق بشعارات القومية والاشتراكية والعدالة. يمضي العمر، وعبر معتركه تحتل الكتب الذاكرة ورفوف البيت، تنطوي علي حياتها الخاصة، وأنت سعيد بما قرأته، وحزين علي ما لم تقرأه. رحم الله من أقام البناء، ومن صف الكتب علي الرفوف. هؤلاء الذين نوروا أمامي الطريق فبدأت القراءة مثل عطشان لم يعرف الارتواء. اساطير وفنون وأشعار قديمة وحديثة، وشئ ما ينمو بداخلي، بذرة بداخلها شجرة، وأنت سعيد بما تعلمته يؤانسك في الهرم كل من مروا بك وأنت تعيش في اروقة الكلام تلهب روحك النار المقدسة، ونشوة ابتكار التخييل، والفرح بهؤلاء الذين يسعون علي الورق سعي الخلود والاحتدام.