كيف استطاع الخطاب التقليدي النقلي أن يلتهم وعي الجماهير ببساطته المتناهية التي تصل أحياناً حد الخرافة الصريحة؟. ليست المسألة هنا متعلقة فقط ب"سيكولوجية الجماهير" العاطفية الغوغائية التي يتراجع فيها العقل إلى حدوده الدنيا، والتي تحدث عنها الباحث الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه الشهير، وإنما الأمر يتعلق بما هو أبعد من ذلك، حيث التسطيح العقلي/المعرفي الصادر عن (إرادة تجهيل) يمارسها سدنة التقليد مع سبق الإصرار والترصد. بمعنى أن هذا الخطاب لا يصدر عن جهل ذاتي متحقق فحسب، وإنما يصدر – إضافة إلى ذلك – عن انفعال بالجهل وتفاعل معه؛ يزاد تحت وطأة الاعتقاد بأن التحكم في مصائر هذه الجماهير البائسة لا يتم إلا بتجهيلها، وأن نفوذه السلطوي مرتبط –عكسيا- بمستوى وعيها، فكلما كانت بساطته أوسع وأعمق وأوضح؛ كان امتداده السلطوي الأفقي أوسع وأبعد وأقوى. «الحرية الليبرالية» المطروحة من قبل الليبراليين، هي كغيرها، لا بد وأن تتفاعل في مستويات ثلاثة: مستوى: المعقول العقلي، ومستوى: المعقول الواقعي، ومستوى: المعقول النصي، وهذه المستويات الثلاثة تتفاعل – بدورها – مع بعضها البعض.. عندما بدأت الليبرالية - كخطاب تحرّري – تطرح نفسها كخيار إنساني، جماهيري ومؤسساتي، تصدى لها الخطاب التقليدي بغضب صاخب. هذا طبيعي، وهو المتوقع على أي حال؛ لأن هذا الخطاب المهيمن الذي مارس التحكّم التسلطي على تفاصيل الروحي واليومي من حياة الناس (يتحكّم حتى بالمحايدين والمعترضين عليه، بعد أن أصبحوا أقلية يرضخون لخياراته في الفضاء العام) بواسطة التحكم بوعي الجماهير المتأسلمة المستسلمة التي تُسلم له قيادتها على نحو تعبّدي، لا بد وأن يفزع من خطاب مضاد يتعمّد تحرير هذه الجماهير من الجهل بحريتها ابتداء، ومن ثم من الجهل بإنسانيتها؛ لأن هذا الخطاب الليبرالي المضاد سيحررها في النهاية من نفوذ خطاب سيدافع عن مستعمراته (أي ملايين العقول التقليدية المحتلة) حتى الرمق الأخير. قلتُ: من الطبيعي أن يدافع التقليدي عن نفسه بمهاجمة الخطاب الليبرالي والليبراليين. لكن التقليدي لن يحاول ممارسة هذا الهجوم الدفاعي بتوسل العلمي ولو في أدنى درجاته؛ لا لأنه لا يمتلك المستوى العلمي المعقول في هذا المجال فحسب، وإنما – أيضا – لأنه لا يريد الاشتباك مع جماهيريه عبر آليات العلم التي تتوفر على الحد الأدنى من التدقيق التحقيق؛ حتى لا يبعث في جماهيره الجاهلة المستجهلة شيئاً من "إرادة العلم"، تلك الإرادة التي إن تحرّكت ولو على نطاق ضيق، فلا بد أنها ستقودهم إلى محاولة البحث عن الحقائق، وهي محاولة خطرة؛ لأنها ستقودهم بالضرورة إلى اكتشاف مستوى الضحالة المعرفية في خطاب التقليديين من جهة، ومن جهة أخرى إلى اكتشاف مستوى التزييف والتدليس الذي يمارسه – عن عمد – سدنة خطاب الجهل والتجهيل. عندما أراد التقليديون تشويه الخطاب الليبرالي في الوعي الجماهيري الغوغائي الذي لا يعرف شيئا عن الليبرالية، وليس لديه استعداد للبحث فيها أو عنها؛ قالوا له – بكل استخفاف واستغباء مستهتر -: "الليبرالية تعني الحرية المطلقة التي تبيح كل شيء". هكذا، تعمّدوا الضرب على الوتر الحساس للكائنات المنغلقة على تقاليدها التزمتية، تلك التقاليد التي تتمحور حول "الإشكالية الجنسية" بالدرجة الأولى. بمجرد سماعه هذا التعريف؛ أصيب الجماهيري الجاهل البائس بالرعب من هذا الخطاب الجديد/الليبرالي، الذي يؤكد له (وُعّاظه) أنه محض دعوة إلى التحلل الجنسي بلا حدود. بمجرد أن تخيّل التقليدي هذا التحلل في وعيه المحدود؛ رأى الناس، كل الناس – من خلال وهم "الحرية المطلقة" - يتجرّدون من ملابسهم ويمشون كما ولدتهم أمهاتهم في الأسواق!!!؛ فأصيب بالهلع وهو يتماهى تخيّلا مع هذه التهويمات الخلاعية التي تستبيح الأعراض بصورة تبعث على الجنون، وليس فقط على الرفض والاعتراض. ليس هذا افتراء على التقليديين. لقد سمعت كبار الوعاظ الفضائيين، ومن على منابر فضائية حوارية تجعل الليبرالية موضوعها، يقولون بكل صراحة: "الليبرالية تعني الحرية المطلقة، تعني أن كل شيء مباح". هكذا يعرفها عرّابو الإسلام السياسي، فماذا تريد من الجماهيري التقليدي التابع أن يتخيل؛ بعد أن يسمع هذا التعريف المُحدّد المؤكد الذي يتكرر على لسان أكثر من واعظ تقليدي يظهر بمظهر: "عالم رباني"، أو يتواضع فيظهر بمظهر:"مفكر إسلامي"!. المشكلة الأكبر أن "العالم"/"المفكر" التقليدي قد يكون مقتنعا بهذا التعريف الذي يردده ويؤكده؛ لأن معرفته تقف على هذه الحدود، ولا تتجاوزها بحال. ومن المعروف – في نظرية المعرفة – أن معرفتنا بالشيء تتداخل فيها عوامل كثيرة، منها إرادتنا اللاواعية التي ترسم لنا حدود ما نريد أن نعرفه مما هو متاح لنا، سواء في مدى العقل، أو في مدى العلم المادي المرتبط بالمحسوس. ومن هنا، فالواعظ التقليدي قد لا يستطيع – مهما حاول - أن يرى في الليبرالية إلا تحررا مطلقا/تحررا إباحيا؛ ليس فقط لأنه لا يستطيع أن يرى أكثر من ذلك، وإنما لأنه – في الأصل اللاواعي - لا يريد أن يرى أكثر من ذلك؛ وإلا وقع في صدام مع نفسه، مع هويته وتاريخه، ومع محيطه الحيوي الذي يتموضع فيه، ويري فيه "هوية وُجوده" على أكثر من صعيد. ماذا لو أن "الفرد التقليدي" انفصل عن القطيع الجماهيري المرتبط – توثينا - بالواعظ التقليدي الجاهل أو المُزيّف، وحَاكَم هذا التعريف الهجائي، ولو إلى عقله البسيط؟!. ماذا لو سأل نفسه: هل يمكن أصلا – عقلا، و تاريخا/واقعا - أن تُوجد "حرية مطلقة" بلا حدود؟!، (إذ في الحد يكمن جوهر الحرية) وهل يُوجد مُجتمع/دولة في العالم، في أي مكان في العالم، منذ فجر التاريخ المكتوب وإلى اليوم، وضع/وضعت نظرية: "حرية بلا حدود"، موضع التنفيذ؟!. لو طرح الجماهيري التقليدي على نفسه هذه الأسئلة البسيطة الواضحة وأمثالها؛ لاكتشف أن وُعّاظه في هذه الحال: إما جهلة يصل جهلهم إلى القاع، حيث الغياب التام للمعلومة، وإما أنهم مُدلّسون مُزيّفون مُخادعون، يريدون تضليل جماهيرهم؛ كيما يضمنوا بقاء هذه الجماهير في حظيرة الأتباع. قليل من العلم ينهي كثيرا من الخلاف الناتج عن سوء الفهم، أو عن إرادة سوء الفهم. "الحرية الليبرالية" مثلها مثل أي "مصطلح" أو "نظرية" أو "مفهوم" أو "مبدأ"...إلخ تحتاج شيئاً من الاستبصار العقلي/العلمي؛ لتتضح صورتها، على الأقل في الحدود الممكنة جماهيريا. كي تتضح الصورة جماهيريا؛ نتجاوز عن كثير من التفاصيل المربكة لعقل الجماهير المحدود، ونقول: هذه "الحرية الليبرالية" المطروحة من قبل الليبراليين، هي كغيرها، لا بد وأن تتفاعل في مستويات ثلاثة: مستوى: المعقول العقلي، ومستوى: المعقول الواقعي، ومستوى: المعقول النصي، وهذه المستويات الثلاثة تتفاعل – بدورها – مع بعضها البعض. ولا يمكن لمثل هذه النظرية أن تمرّ في أي مجتمع إلا عبر هذه المستويات، سواء تم ذلك بشكل واعٍ ومباشر، أو بشكل غير واعٍ أو غير مباشر، فهذا في النهاية هو ما يحدث في حدود شروط العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع. إذا نظرنا – بتبسيط شديد – إلى هذه المستويات، وجدنا أن كل مستوى منها يمارس – بالضرورة – تقييداً أبدياً أو ظرفياً على الحرية المطروحة من وجهة النظر الليبرالية. فالوعي بهذه الحرية من خلال "المعقول العقلي"، يعني أن الإنسان العاقل/العامل، الفاعل/المنفعل سيُخضِع هذه النظرية في التحرر لجدل مستمر، بحيث يناقش مشروعيتها الأصلية، كما سيناقش مبرراتها الظرفية وشروط إمكانها وتمكينها...إلخ التفاصيل. وهذا يعني بداهة أنها حرية تخضع باستمرار للمساءلة العقلية إجمالا وتفصيلا، ما يعني حتما أنها لم ولن تكون حرية مطلقة بلاحدود، ولو على مستوى التصور النظري الخالص. ولهذا السبب، نجد أن نظرية الحرية تخضع لجدل كبير ومستمر ومتشعّب في كل دول/مجتمعات العالم، بل إن أشدها ممارسة لهذا الجدل هي تلك المجتمعات التي وصلت فيها الحرية إلى أشهر صور الانفتاح التحرري في تمظهره العملي، ولا أقول: إلى أقصى حدود الحرية؛ لأن حدودها مصنوعة – بحدود نِسْبيّة التصور المتحول – من معطيات عالمي الفكر والواقع، ومن التفاعل الجدلي بينهما. يأتي المستوى الثاني، وهو "المعقول العملي"، ليفضح تدليس المقولة الهجائية التقليدية: "الليبرالية هي الحرية بلا قيود". فقوانين الحرية وممارساتها في كل العالم تخضع لجدل يومي ينشأ عن مراجعة نتائج الممارسات العملية، تلك النتائج المحسوسة القابلة للقياس التجريبي. فمثلا، "حرية النقاب" أو حرية "بيع وتناول الكحول" في المجتمعات الغربية الليبرالية، تخضع للنقاش المستمر أو الدوري، وتستعين حيثيات النقاش بالنتائج العملية التي يرصدها الأمن وعلماء الاجتماع...إلخ. ولو أن المسألة "حرية مطلقة بلا حدود"، لم يكن للجدل حول النقاب أو الكحول معنى من الأساس. ففي المجتمعات الليبرالية يحدث أن يشرعن القانون حرية ما، أو يقيدها، وتأتي النتائج العملية (التي قد تأخذ في الاعتبار معطيات التجربة في تاريخ طويل) لتدعم هذا القانون أو تدحضه؛ فتكون المساءلة خاضعة لمعقولية النتائج العملية المتغيرة تبعا لتغير الظروف. وهذا يعني أن الحرية الليبرالية حرية مقيدة بقيود تنظيمية من حيث الأصل، وخاضعة للمراجعة المستمرة بناء على مخرجات هذا التقييد/التنظيم. أخيرا، يأتي المستوى الثالث، وهو "المعقول النصي" المرتبط بالموروثات التي تسهم في خلق الهوية وتشارك في تكييفها. فكل أمة تمتلك إرثا مُكوّنا من سرديات كبرى، تخلّقت بها، أو خلقتها، عبر تاريخها الطويل. وبطبيعة الحال لا يمكن الاستسلام لها بالكامل لمجرد أنها موروثات ذاتية، ولكن – في الوقت نفسه – لا يمكن القفز عليها بالكلية، وإلا تعرّض المجتمع للتفكك والانحلال والضياع. لهذا، فأي مبدأ أو نظرية، كالحرية الليبرالية مثلا، لا بد أن تأخذ هذا الموروث بعين الاعتبار في محاولتها البحث عن مشروعية لها في الواقع الجديد، سواء في مستوى الخطاب الثقافي، أو في مستوى الممارسة العملية المرتبطة – بشكل مباشر أو غير مباشر - بتحولات الخطاب الثقافي. بناء على هذا، نرى – بوضوح – أن الحرية الليبرالية تصطبغ بلون التجربة الحضارية/الموروث الحاكم للوعي؛ عندما تحاول الفعل فيه، ومن خلاله. وللتوضيح أكثر؛ نقول: إن الحرية الليبرالية في السويد والنرويج ليست هي الحرية الليبرالية في فرنسا، والحرية الليبرالية في فرنسا ليست هي الحرية الليبرالية في أمريكا؛ لأن الموروث النصي المُتخلّق من تجارب تاريخية مختلفة ليس واحداً، حتى وإن تشابه، أو حتى أوْهَمَ بالتماثل. وإذا كان الأمر كذلك في تجارب حضارية متقاربة جدا، فبالضرورة سيكون الاختلاف أوسع في تجارب متباينة حضارياً. وبالتالي، نؤكد أن الحرية الليبرالية في اليمن، أو السعودية، أو مصر، أو لبنان، أو تونس، لن تكون هي الحرية الليبرالية في بريطانيا، أو في هولندا، بل لن تكون الحرية الليبرالية المأمولة في اليمن، هي الحرية الليبرالية المأمولة في لبنان، ولن تكون في قطر كما هي في العراق؛ على الرغم من كونها جميعاً تتضمن معنى العام للتحرر الليبرالي.