تنتشر مؤخراً في كل وسائل الإعلام والتواصل أخبار أسطورة الصيني "جاك ما" Jack Ma، من مواليد عام 1964، والذي أصبح الآن مدير ومالك أكبر امبراطورية مالية في العالم والمعروفة باسم Alipay أو مجموعة Alibaba groupe ويقارب رأس مالها 23.3 بليون دولار أميركي. و"جاك ما" متحدّر من عائلة متواضعة بل ومُعْدَمَة، من أبوين موسيقيين يعملان كرواة للقصص الشعبية. لكنه جاء ببذرة تحدّت كل الحدود، ووعت منذ سن مبكر أهمية الاختراق للآخر، فلقد بدأ منذ طفولته فكسر حاجز عزلة اللغة الصينية، إذ ظهر شغفه المبكر باللغة الإنجليزية، وتعلمها ذاتياً حين كان يحرص على البحث عن السياح والتحاور معهم، وأخذهم في جولات سياحية كدليل سياحي مجاني. والأهم من كل ذلك أنه قد تعلم كيف يكسر حاجز الرفض والفشل، فهو بحق الرجل الذي جمع أكبر عدد من مواقف الرفض في حياته، واجه رفضاً قياسباً في مراحل تعليمه، فحين تقدم للجامعة بالصين فشل ثلاث مرات في امتحان القبول، مما اضطره للالتحاق بمعهد للمعلمين. وتلت ذلك الضربات المتلاحقة حين رفضته جامعة هارفرد عشر مرات متتالية، لم يكف خلالها عن التقديم لإتمام دراسته فيها ولم تكف تلك الجامعة العريقة عن رفضه بإصرار؟ ثم وحين جاء لطور العمل كان بانتظاره كم لا بأس به من اللاءات، فلقد رُفِضَ ثلاثين مرة حين تقدم لوظائف مختلفة، قالوا له إنه لا يصلح حين تقدم للعمل في البوليس، حتى سلسلة مطاعم كنتاكي فرايد تشيكن حين افتتحت مطاعمها في الصين رفضته وقبلت كل المتقدمين عداه. بذلك يكون قد ضرب الرقم القياسي في عدد مرات الرفض التي تحملها دون أن تنهار معنوياته. حين انتقل للولايات المتحدة عام 1994 بدأ مع مجموعة من أصدقائه بتأسيس موقع على الانترنت للتعريف بالصين حين اكتشف أن الشبكة لا تقدم الكثير عن دولته أسس ما يسمى بكتاب الصين الأصفر " China Yellow Pages "، بدأ بمبلغ 20000 دولار وتطور الأمر عام 1999 لتأسيس شركة التسويق الصينية على الانترنت، والمعروفة باسم مجموعة علي بابا، أسسها في شقته مع 17 من أصدقائه، والتي تحولت لعملاق تجاري عالمي يخدم 79 مليون عضو في ما يزيد عن ال 240 دولة، وقُدِّرَتْ قيمة أسهمها العام الماضي بمئتي مليار دولار. لقد انهار جدار اللاءات بحق، وهنا ولكأنما خُتِمَت سلسلة الرفض، وجاء دوره ليرفض، فلقد رفض عروض شركات كبرى مثل عرض شركة ايبيه eBay الدولية للتسويق أيضاً على الإنترنت لشراء شركته. وهنا نتوقف لنتساءل كيف يمكن التوفيق بين العبقرية التي مكنته من تأسيس هذا العملاق وبين الرفض أو الأبواب التي استمرت تُغْلَق بوجهه؟ هل الخلل فيه أم في تلك المؤسسات بمفاهيمها التقليدية، والتي تخشى المبدعين المجانين؟ أم لعلها طبيعة العصر التي فتحت المجالات والفرص لكل من لديه الاستعداد للتعملق؟ هل هو عصر الأفراد الذين يتحدّون المؤسسات الجامدة؟ لا يمكن التكهن بوجود خلل في هذه الشخصية "جاك ما"، وهو الذي يطوف العالم يحاضر بفكر تنويري، ويدعو لفتح الأبواب، ويستقطب جمهوراً يتزايد. وننظر لجاك ما الإنسان وتلفت الأنظار مواقفه الأخلاقية، مثل وعيه البيئي، ومقاطعته لكل المنتجات المأخوذة من زعانف سمك القرش حماية لهذا المخلوق من الانقراض. ثم تستوقفنا نظريته التي تتلخص في أن مهمة أمثاله من هوامير التجارة أن يساعدوا عدداً أكبر من الناس على صنع مكاسب نظيفة، مكاسب مالية مستدامة تضمن لهم كرامة العيش. شغفه بالترقي الجسدي والروحي واضح من خلال شغفه برياضة التاي شي، فلقد تدرب عليها بانتظام، ليس هذا فحسب بل ويفرض على موظفي شركته دروساً إجبارية في هذه الرياضة. وهي رياضة تقليدية صينية ذات فلسفة عميقة لأنها تنمّي التحكّم بالقوى الروحية الباطنة وتشحذ تواصل الفرد مع إمكاناته المُطْلَقَة واللانهائية، يبلغ في ممارستها حالة الوحدانية، الوحدانية التي تجعله يتخطى الازدواج داخله بين قطبي الطاقة المعروفين في الحضارة الصينية بالين واليانج Yin and Yang ، واللذان يجمعان نار الشمس وندى القمر المضمرة في باطن المخلوق، هذه الوحدانية التي تبلغ بالإنسان حالة من السلام والتجلّي الجسدي والروحي، حالة ابداعية، حالة وصول، تجمع بين الماء والنار وقواهما، ولها منافع عظيمة سواء كفن قتالي للدفاع عن النفس أو لرفع الحيويات وتعزيز اللياقة الصحية والعلاج الذاتي من الأمراض. يعبّر " جاك ما" عن إيمانه بدور تلك الرياضة في خلق الإنسان الحقيقي الإنسان الكامل، قائلاً: " أطمح لأن يتذكرني الناس بعد وفاتي بصفتي مدرب تاي شي أكثر من كوني المؤسس لأكبر شركة صينية على الإنترنت للتسوق." وبالمحصلة فإن شخصيات مثل جاك ما وتجربته الحياتية والعملية هي رسالة واضحة للناشئة وللأجيال القادمة، رسالة مفادها أن "لا يأس."، واصل المحاولة، فالفشل ماهو إلا دعوة ربما اتسمت بالقسوة للغوص في الذات والبحث عن تفرّدها، فعلى ذلك التفرد يعتمد النجاح، وعلى التعبير عن ذلك التفرد تنعقد أعلى الحظوظ، الحظ لا يأتي من الخارج وإنما من الداخل، لذا يؤكد "جاك ما" على أن الحياة والتجارة والانتاج الإبداعي عموماً هو مثل رياضة التاي شي، هي تدريبات لإطلاق العملاق الكامن داخل كل منا.