لا توجد طرق مختصرة للنهوض بالإنسان وأدائه إلا باتباع التسلسل المنطقي للتأهيل، وأن نستلهم العبر من الدول والشركات الناجحة على مستوى العالم وهو الاهتمام الشديد بالتعليم والتدريب تخيلوا لو أن أرامكو بدأت كما بدأت مؤسسات الدولة وشركاتها الأخرى التي لم تبدأ بخبرات عالمية، كيف لو أن أرامكو بدأت مكبلة بالقيود المالية والإدارية من وزارتي المالية ووزارة الخدمة المدنية؟ ستضطر للبحث عن مهندسين لتوظفهم على المرتبة السابعة فلا تجد من يتقدم إليها فتضطر إلى أن توكل معظم أعمالها إلى مقاول خارجي أكثر مهندسيه من الوافدين، وتستعين بمستشارين من القطاع الخاص للإشراف على مشروعاتها كما هو حاصل الآن في بعض الوزارات التي تقدم الخدمات للمواطن ولديها مشروعات بمئات الملايين في كل منطقة، ومن الأمثلة الحية على ذلك البلديات التي تقدم خدماتها على مستوى المملكة، ولافتقارها إلى المهندس السعودي فإنها تمنح الوافد فرصاَ لا تعوض للتدريب العملي والتطبيق الميداني في إدارة المشروعات ومراقبتها. وماذا عن نقص المصادر البشرية في الصحة والمرور والشرطة والزراعة والبيئة وغيرها من المؤسسات الحكومية التي تفتقر إلى الكفاءات الهندسية والفنية سواء من حيث العدد أو كفاءة الأداء، وكم تسبب من خسائر فادحة يدفع ثمنها الوطن والمواطن أضعافاً مضاعفة. كانت المملكة محظوظة بأن من اكتشف البترول في بداياته شركات عالمية تمتلك أحدث ما توصل إليه العلم في ذلك لوقت من التقنية والإدارة، والجميل أن تلك الشركات كانت شريكاً في استخراج البترول وشحنه وتصديره وبيعه وهذا أوجد شراكة حقيقية أتاحت نقل الأنظمة والبرامج والتدريب الذي استمر أثره إلى يومنا هذا، ومن أهم ما تم نقله وتوطينه في شركة أرامكو منذ بداياتها ثقافة الانضباط واحترام الوقت والمحاسبة وحسن تقييم الموظف ووضع مسارات خاصة للمتفوقين في الأداء ليصبحوا قادة ومديري المستقبل في الشركة، هذه الإجراءات تفتقدها معظم مؤسسات القطاع العام والخاص، واليوم أصبحت أرامكو أهم مزود للحكومة بالكفاءات المطلوبة للتحول وتحقيق الرؤية، كما أنها أكثر ممول لشركات القطاع الخاص. اليوم نجد أن من استثمرت فيهم شركة أرامكو قد أصبحوا قادة ومستشارين في الاقتصاد والتعليم والصحة والدفاع وفي شركات الهيئة الملكية للجبيل وينبع وفي شركة معادن والكهرباء وهيئة الاستثمار وغيرها. توفر الكفاءات البشرية المؤهلة في أرامكو لم يكن وليد الصدفة لكنها أوجدت برامج تعليم وتدريب طويلة الأجل مثل برنامج الإعداد الجامعي (CBC) الذي يبدأ بحسن اختيار المتقدمين من خريجي الثانوية ثم إعدادهم علمياً ولغوياً مدة عام داخل المملكة قبل إرسالهم إلى أفضل الجامعات على مستوى العالم حسب تخصصاتهم ومتابعتهم أثناء الدراسة والتخلص من غير الجادين منهم أثناء الدراسة الجامعية، وإعداد برامج تدريب على رأس العمل بعد التخرج، مع إتاحة الفرصة لهم لاحقاً للحصول على شهادة الماجستير في نفس التخصص، كل ذلك جعل شركة أرامكو تمتلك وتحتفظ بما تحتاجه من المهندسين الذين يشرفون على مشروعاتها والمشروعات الأخرى التي كلفت بها من قبل الدولة. أرامكو مثال حي على أهمية الاستثمار في الإنسان، وأمامنا اليوم برنامج طموح للتحول الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والعسكري، وهذا التحول بحاجة إلى كفاءات مؤهلة تعمل وتراقب الأداء وتؤمن بضرورة التحول، ولهذا فإن من أهم عوامل نجاح التحول هو الاهتمام بالإنسان والاستثمار في تعليمه وتدريبه ورفع مستوى معيشته.. ومن تلك الخطوات ما يأتي: أولاً- يجب أن نؤمن أنه لا توجد طرق مختصرة للنهوض بالإنسان وأدائه إلا باتباع التسلسل المنطقي للتأهيل، وأن نستلهم العبر من الدول والشركات الناجحة على مستوى العالم وهو الاهتمام الشديد بالتعليم والتدريب واختيار الأفضل ليصبح المعلم وأستاذ الجامعة، ووضع برامج لاختيار أفضل العناصر البشرية بكل نزاهة وشفافية ليصبح منهم المدير والقائد، ومن الوسائل الجديرة بالدراسة للنهوض بالمؤسسات المهمة والتي تعاني من الترهل وضعف الأداء هو إنشاء وحدات موازية للوحدات القائمة بالتعاون مع بيوت الخبرة العالمية لتساعد في وضع الأسس القوية لحسن اختيار المتقدمين وتعليمهم وتدريبهم وابتعاثهم للتدريب داخل المملكة وخارجها، والمساعدة في تأسيس معاهد متخصصة للتدريب المستمر. ثانياً- للقطاع الخاص دور كبير في تأهيل موظفيه خصوصاً البنوك والشركات الكبيرة التي تكتفي باستيراد الآلات وقطع غيارها وبيعها وصيانتها في السوق السعودي، وفي نهاية العام تكسب مئات الملايين دون وجود أي ضرائب على هذه الأرباح عدا ما تدفعه للزكاة، رغم أنه لولا ما تقدمه الدولة لها من مرافق وتسهيلات لما استطاعت أن تحقق هذه المكاسب الخيالية، وفي كل دول العالم تفرض ضرائب تصاعدية على أرباح الشركات والبنوك والأغنياء لأسباب مهمة منها تقليل تكدس الأموال لدى فئة قليلة من المواطنين، وإجبار تلك الشركات على المساهمة في الأعمال الخيرية والأبحاث والتطوير، والاستثمار داخل البلد للنهوض بالصناعة والخدمات، والصرف أكثر على تطوير أداء موظفيها عن طريق التدريب والتعليم والابتعاث ووضع برامج لتملك المنازل وبرامج الادخار للخروج بموظفيها من دائرة الحاجة والفقر إلى الطبقة المتوسطة التي تعد أهم أسس بناء الأسرة واستقرار الوطن وأمنه. المملكة لديها نموذج حي على أهمية الاستثمار بالإنسان وتلك هي أرامكو، واليوم تجني المملكة ما بذلته تلك الشركة من جهود لتأهيل المهندسين والفنيين، إضافة إلى مساهمة الشركة في توسيع دائرة الطبقة المتوسطة فجميع المتقاعدين منها يمتلكون منازلهم الخاصة، ولديهم القدرة الفنية والمالية لإنشاء مؤسساتهم أو العمل كمتعاقدين مع القطاعين العام والخاص. [email protected]