سحقًا وبعدًا لذاك الذي حرص على إيذاء المسلمين في أفضل أيام الله في شهر صومهم وآذى أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله واستباح حرمتهم فلم يراعِ حرمة المدينة ولم يراعِ حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله، ولم يرقب في مؤمن صائم وعابد زائر إلّا ولا ذمة.. في كل عامٍ يودع فيه المسلمون شهر رمضان المبارك تتساقط من أعين كثير منهم دموع الفراق، وتعلو وجوههم تعابير الحزن العميق الذي يجده المفارق، وليس ذلك الحال إلا استشعارًا بحقيقة الفراق، فإنه ليس كأي فراق، فرمضان وقتٌ اختاره الله وفضله واختصه بكثير من الفضائل وأعظمها تنزل القرآن فيه، ومنها بركة العمل الصالح فيه ومنها تنزل الملائكة، ومنها كثرة العتقاء من النار فيه، ومنها تصفيد الشياطين، وإغلاق أبواب النار، ومنها ومنها، بغير حصر، فأصبح شهر رمضان معظمًا في القلوب السليمة، ومحببًا إلى النفوس الزكية، ترى أيامه مجرد لحظات تمر بها مرور الضيف الكريم، الذي لا تكاد النفس تشبع من مجالسته والتمتع به إلا وقد شد رحاله راحلاً ولا تدري تلك النفوس هل كتب الله لها لقاءه واستقباله مرة أخرى أم سيعود ذلك الضيف وقد أفضت إلى خالقها وباريها؟ مضى رمضانٌ أو كأني به مضى وغاب سناهُ بعد ما كان أومضا فيا عهده ما كان أكرم معهداً ويا عصره أعزز عليّ أن أنقضا ألم بنا كالطّيف في الصيف زائراً فخيم فينا ساعة ثم قُوِّضا فيا ليت شعري إذ نوى غربة النوى أبالسّخط عنا قد تولى أم الرضا فهنيئًا لتلك النفوس التي استبشرت لقدومه وشمرت للقائه وأحسنت فيه واستغلت ساعاته ولحظاته، فكان عليها ضيفًا خفيفًا ودّت لو طال مقامه، ولكن مع تلك الدموع التي تفيض حزنًا لفراق رمضان فإن من حكمة الله أن جبر خاطرها ببسمة العيد والفرح فيه، فلم يطل حزنها، ولم يشغلها فراق رمضان عن فرحة العيد وبسماته فإن لكل وقت حالًا ومقالاً، فقد كان من سنة النبي صلى الله عليه وآله وهو سيد العبّاد أجمعين وهو أكرم من صام، وأطهر من قام، كان يستقبل العيد ببسمته وفرحته وانشراح صدره، وتركه الأمر لصحبه يعبرون عن فرحتهم بما اعتادوا عليه من المباحات والأهازيج ففي الصحيحين عن عائشة، رضي الله عنها، قالت دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، فقال أبو بكر أمزامير الشيطان في بيت رسول الله: وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله «يا أبا بكر إن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا» وهذه رسالة من النبي صلى الله عليه وآله لكل من لم يفهم معنى التقلب والانتقال من حال إلى حال، وأولئك الذين يدوم العبوس على وجوههم، ويظهرون التخشع والترفع عن ما يفعله المسلمون في يوم عيدهم من سرور وفرح حتى وكأن الطير على رؤوسهم، وكأنه اختلط في أفهامهم أن البكاء في رمضان والخشوع لا يناسبه الفرح والضحك والانبساط بعده، وغاب عنهم أن الفرح عبادة الوقت، وهو العيد الذي علل به نبي الله صلى الله عليه وآله ترك الجاريتين تغنيان في بيته لزوجه، وعلة أخرى هي قوله: لتعلم يهود أن في ديننا فسحة. فهذه الفسحة شرعية سنية، ينبغي القيام بها تماماً كما كنا نقوم في رمضان ونتضرع! وهذا الحال هو هدي النبي صلى الله عليه وآله. لقد مضى رمضان وانطوت أيامه وصحائفه وقد علم الله من فاز فيه ممن خسر، وليس للعباد من أمرهم شيء، فأمر القبول والرد لله سبحانه وتعالى فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش وكم من قائم ليس له من قيامه إلا التعب والسهر، ورب رجل مغمور بين الناس قد قبل الله صيامه وقيامه وتقبله وكتبه في عداد الفائزين، ورب رجل قد أظهر الزهد والعبادة والتخشع ولكنه معدود من المحرومين، وليس لنا من أمره شيء، ولكن قد جرت سنة الله في وضع القبول في الأرض لأهل الصدق والإخلاص، كما وضع البغض لأهل الكذب والضلال. إن فرحة العيد تأتي امتداداً للإحسان الذي ينشرح به الصدر في أيام رمضان، إحسان في العبادة وإحسان مع الخلق، فكم من محسن في رمضان آوى يتيمًا وأضحك حزينًا وأسعد مسكينا وأعان ملهوفًا، فمرت أيام رمضان وهو يحاول استيعاب أكبر عدد لتفريج كرباتهم وقضاء حاجاتهم، تلك السعادة التي تعقب رمضان ببسمة في يوم عيده وهو يرى اليتيم قد لبس أحسن اللباس، ويرى المسكين قد ارتسمت البسمة على شفتيه، ويرى السائل قد كفّ عن السؤال واستغنى في ذلك اليوم، فهو سعيد بعيده وما قدمه في موسم الخيرات، وسعادته بإدخال السرور في قلوب اليتامى والمساكين أكبر وأشمل، فهنيئًا له بسمته وفرحته. وسحقًا وبعدًا لذاك الذي حرص على إيذاء المسلمين في أفضل أيام الله في شهر صومهم وآذى أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله واستباح حرمتهم فلم يراعِ حرمة المدينة ولم يراعِ حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله، ولم يرقب في مؤمن صائم وعابد زائر إلّا ولا ذمة، فكان قربته إلى الله بزعمه بتمزيق جسده وأجساد الصائمين أشلاء، سفك فيها الدم الحرام، وروّع الأنفس التي جاءت تبحث عن الطمأنينة والسكينة والخشوع، في بقعة هي ثاني، أو أول أطهر بقعة في العالم، بين يدي من أمرنا بخفض الصوت عنده، واحترام مقامه، وعمل على ذلك السلف وراعوا تلك الحرمة له ميتاً كما لو كان حياً، صلى الله عليه وآله، فأتى ليمزق فيها أشلاء الصائمين ويسفك دماء القائمين ويزهق أرواح الزائرين، فأي صوم صامه هذا وأي قيام قامه؟ وأي عيد يستقبله وقد نزعت من قلبه معاني الرحمة بعباد الله، وقد غفر الله لبغي ذنبها العظيم لرحمتها لكلب، وعذب امرأة في هرة، فكيف بمن آذى مسلماً صائماً في جوار رسول الله صلى الله عليه وآله، لا ريب أن هذا وأمثاله تغيب عن أذهانهم تلك الرحمة، وقيمة الابتسامة في وجوه المؤمنين، ومدى أثر إسعاد الآخرين، فأصبح حريصًا على أن يفسد في الأرض بحجة إصلاحها، والله يعلم إنهم لكاذبون. [email protected]