أصبحنا نحتاج مراعاة لفوارق الزمن المُرعبة ولكن ليس بنفس ذاك المقدار الضئيل مابين مواقيت الصلوات في الرياض وضواحيها حين يُصرّ مذيع التلفزيون (ابيض وأسود) على وجوب مراعاتها .! كم كنا بحاجة آنذاك إلى قُدرة خارقة لكي يستطيع واحدنا جرّ نفسه حتى ولو من شعر رأسه لينتقل عبر الزمن لبضع سنوات إلى الأمام كما تقول الألمانية كريستا فولف وذلك من أجل التعرّف على تلك المتغيرات التي قلبت حياتنا رأساً على عقب، دعوني أعد قليلاً للماضي غير البعيد مادام الحديث بدأ بالتلفزيون فمن كان عمره اليوم حوالي الأربعين عاماً فلامُشكلة لديه حيث ولد وفي بيتهم جهاز تلفزيون لهذا فهو لن يتخيل حياة بدون هذا الجهاز السحري العجيب فمن ذا الذي يستطيع العيش في عصرنا هذا دون وسيلة تربطه بالعالم تنقل له كل الاحداث آن وقوعها بل وحتى مايخصّه شخصيّاً منها مثل متابعة سوق الأسهم ووضع الشركات وأحوال الطقس التي يستطلعها الانسان من خلال التلفزيون، إنما من كان عُمره أكثر من اربعين سنة ب(حبّتين) فإنه حتما يذكر تلك المرحلة التي تقف فيها الحياة بعد صلاة العشاء الأخير حيث يهجع كل (إنسيّ) في بيته ولا يبقى ساهراً الاّ الشرطي والعسّة وكلاب ضالّة مهمتها النباح طوال الليل، لا تلفزيون ولا قنوات فضائيّة لا مقاهي (كوفي شوب) ولا دوران في السيارة حتى نجمة الصبح لا هاتف جوّال في الأذن ينقل أصوات الأحبة وهمساتهم ولا (هايبر ماركت) يحوي مالا يخطر على قلب بشر يفتح أبوابه 24ساعة في الأربع والعشرين ساعة، كل الترفيه كان محصوراً في سماع الراديو وهو يبث الأخبار وأغاني سعد ابراهيم مثل( أرسل سلامي مع نسيم الصباح لصاحب لي صار وصله صعيب) أو طارق عبدالحكيم وهو يغني (أبكي على ماجرى لي ياهلي) ولازلت أذكر صوت ذلك المذيع وهو يقول بكل رصانة :- (استمعنا قبل قليل للمطرب طلال مداح في أُغنية «في سلّم الطائرة» من كلمات يسلم بن علي، الحان وغناء طلال مداح) من المفارقات العجيبة أن كاتب هذه الأسطر قد شاهد عروضاً سينمائيّة حقيقيّة قبل أن يشاهد التلفزيون فقد كان الجيش العربي السعودي المرابط في قاعدة الخرج العسكريّة يُرفّه عن الضباط والجنود بعروض سينمائيّة لأحدث الأفلام المصريّة وكان النظّارة يجلسون بانتظام على كراسي صُفّتْ أمام شاشة بيضاء كبيرة نُصبت في الهواء الطلق بإحدى الساحات الكبيرة وسط القاعدة، ودخلنا حقبة أُخرى بدخول التلفزيون الذي مانعت بعض الأسر المنغلقة في إدخاله في بداية الأمر ولكن بعد ضغوط مورستْ على الأب رضخ للأمر الواقع، فاستمتع الناس بمسرحيات وأغاني السيدة فيروز وفرحوا مع الصبّوحة في أناقتها وغنّوا مع نجاح سلاّم وحتى (الشيبان) كان لهم موعد مع الفرح حين تداعبهم سميرة توفيق أما عُشّاق الطرب الأصيل فموعدهم مع (الستّ) أم كلثوم كل ليلة جمعة. ثم تبدّلت الأحوال حين جاء أشعث أغبر دنّس الكعبة المشرّفة بهوسه وجنونه فصعق المجتمع بما لم يكن يتوقعه فانقلبت الأدمغة وتاهت في ماضوية لم تستطع الإفاقة منها..!واليوم توفّرت أحدث وسائل الاتصال والترفيه وجُلبت كل مخترعات التقنية لكنها عجزتْ عن إشاعة الفرح في القلوب بسبب عجزها عن ردم هوّة فارق التوقيت في الأدمغة منذ احتلال الحرم.