لا أعرف الدكتور عبدالله الناصر الوهيبي - رحمه الله - ولكني أميز إلى حد ما بين صدق الرثاء، وعلاقته الراثي بالمرثي ومعنى الرثاء أيضاً، في وقت اختلط فيه صدق الرثاء بعلاقات الضرورة الاجتماعية، حتى تحولت بعض صحفنا أحياناً إلى موسم عزاء. ومن خلال ما كُتب عن الراحل عن دنيانا ممن أعرف أنهم ينعون فقيداً من نوع خاص، أدركت أن الراحل اعتزل الناس منذ عقد، ورضي بالمضي إلى عالمه الخاص بعيداً عن وهج الأضواء، وانصرف إلى عالم آخر وكأنه ينعي نفسه قبل أن ينعيه الأصدقاء والعارفون والذين ترك لهم بعض ملامح من شخصية إنسان. لفت انتباهي فيما قرأت تلك القطعة التي أبدعها الدكتور راشد المبارك في رثاء قمر سقط وجسد رحل وروح مضت إلى بارئها، ولم أكن لأفكر في الكتابة عن حالة رثاء قد ما كنت أتأمل معنى الرثاء، ونزعة بعض النبلاء والموهوبين والنادرين والعارفين لفضل الراحلين في قراءة صفحة الموت واستقبال النهايات. لم ينع راشد المبارك صديقه عبدالله الناصر الوهيبي، بل كان ينعى الإنسان النبيل المعتزل الرافض في عقده الأخير لوجوه الناس أو الاختلاط بهم، في نزعة نفسية هي أقرب للاحتجاج منها للجحود، وللتأمل أكثر منها للجفاء، وفي نزعة أخذت آخرين غيره إلى إقفال باب العزلة على أنفسهم والمضي في عالمهم الخاص، في إعلان كبير صامت.. أو قل احتجاج معلن بالتوقف قبل الاستسلام الذي لا مفر منه للنهايات الأكيدة. لم تكن كلمة رثاء كانت قطعة استدعاء، لعلاقات الأحياء بالأحياء، وعلاقة الإنسان بالإنسان الذي يستحق أن تُقرأ ملامحه قبل إعلان وفاته.. كانت صرخة في ضمير المجتمع ليلتفت للأحياء المختلفين قبل إعلان رحيلهم.. لعلهم يلقون بعضاً من ملامح وفاء تذكرهم أن لذاكرة قومهم حضورا، ولعطائهم السابق معنى، ولحضورهم في الزمن الصعب بقية من تقدير. (من الظواهر البارزة والمتكررة في شرقنا العربي أن ذا الموهبة يعيش فيه وكأنه لم يعش، وإذا قدر أن يُعرف لمبدع قدرته ولموهوب موهبته حُبست المعرفة وأُجلت العاطفة حتى يرحل الموهوب عن دنيا الناس لتكون العاطفة والمعرفة دمعة بكاء أو كلمة رثاء). إن العناية بالظواهر هنا تجاوز لفكرة الرثاء الشخصي انها تعبير عن حالة احتجاج، أو قل هي تعبير عن حالة وجع تتلمس معاني الفقد في عناوين أوسع من حالة كتابه عن فقيد أو تعداد لشمائل راحل.. وإذ أقف مع هذا المتأمل - الذي أعشق نُبله وأسر بومضاته بين الفينة والأخرى - فإني أستدرك أن ليس كل الشرق عالما مظلما فدرجات الوفاء والتقدير في عالم الأحياء تتلون من حالة صمت السواد إلى ملامح انكشاف بعض ضوء خافت يكشف علاقات قابلة للرصد هنا وهناك.. فعلى سبيل المثال فقد لا يمر أسبوع في بلد صغير كلبنان دون أن نرى حفلة تكريم هنا أو استدعاء ذاكرة مبدع هناك، أو جائزة لها بعض من عناوين الوفاء أو التكريم أو التقدير.. وإذا استدرك هنا أن مثل هذا التدرج لا يعني بحال ان علاقة الأحياء بالأحياء باتت صفتها الوفاء - في شرقنا أو غربنا العربي - وأن ثمة اعترافا منصفا بالراحلين قبل رحيلهم، أو تلمس معنى عطاء مبدع قبل أن يتسرب اليأس إلى نفسه من حالة توقف أو تجاهل أو انطفاء. وحتى لا نلوم الناس وهم في مجملهم عالم بلا نسق قادر على رصد ملامح مبدع على الدوام أو الاقتراب من حالة خاصة تستحق الاهتمام، فتلك يقع عبثها أيضاً على مؤسسات أو جمعيات أو حاضنات للإبداع، متى انتشرت في محيط الناس، اكتشف ذوو الاهتمام أن هناك شيئاً يربطهم بعالم الأحياء.. أين جامعة الملك سعود التي خدم بها عبدالله الناصر الوهيبي كأول أمين عام للجامعة، أليست هي المعنى الأكبر بتكريم روادها، والتذكير بعطائهم، ونشر بعض ملامح مرحلة يجهلها مثلي ومن في جيلي.. لماذا لم تفكر الجامعة، وذلك الراحل ممن ساهموا في بناء لبناتها الأولى، وفضله مشهود على طلابها الأول ان تصدر ولو بياناً صغيراً تنعى الراحل، أو تُذكّر المجتمع أن المؤسسات العلمية هي الأكثر وفاء لمن تركوا بعض بصماتهم على مسيرتها. أتذكر انني كلما مررت بمكتب عمادة كلية العلوم أيام الطلب في مقرها القديم في الملز، وأنا ألمح صور عمدائها السابقين تزين جدران مكتب العميد في صالة الاستقبال أتوقف لحظة ممتناً لهذه اللفتة التي تذكر بأن ثمة أسماء مرت من هنا تركت بعض آثارها على جدران هذه الكلية العريقة. (هكذا يعيش الفذ المتميز في علمه أو فكره أو خلقه غير مُعطى من التقدير إلا أقله، ومن الإكرام الا أضعفه، فإذا رحل رحيلاً لا رجعة بعده، سالت الأقلام الجافة وانطلقت الألسن المحبوسة واستيقظت العاطفة الغافية متحدثة عن مزايا الفقيد، حيث لا ينتفع بمزية ولا يستفيد من موهبة.. لقد ذهب أفذاذ ممن يجب أن تتزين المجتمعات بعطائهم وتتمثل بأدائهم لم ينتشر لهم ذكر، ولم يحتف لهم بأثر، لقد توارت نبضاتهم زهداً منهم في الضجيج الذي تعج به السوق، وخفتت ومضاتهم في الأضواء وصناعة الإعلام، بهذا ماتت بذور وذبلت زهور وجهلت مواهب). هذا الاستدعاء اللافت من مثقف كبير كراشد المبارك، يبدو لي مثل النعي الجميل لحالة تستحق التأمل، نعي من الأحياء للأحياء، قبل أن يكون نعياً للأموات.. نعي للمواهب التي تذبل قبل الرحيل، هل لأنها تعيش في عالم الأموات؟... نعي للثقافة التي تمجد صناعة الإعلام، وتسرقها أضواؤه عن محاولة اكتشاف أن ثمة عالما آخر وإن بدا ضيقاً أو مسكوناً بالعزلة أو الانكفاء على الذات والإحساس الكبير بالفقد. إذا كنا غير قادرين على تكريم من يستحق دعونا إذن ننعاهم قبل الرحيل الأخير.. ليست ثمة عنوان آخر لهذه الومضات لكاتب يكتبه الحدث المؤثر، ولا يكتب هو عن الحدث مهما كانت المحاولة لدفعه للكتابة فيه. هل يجوز في بلد يتمدد على هذه المساحة من البشر والإمكانات والكفاءات، أن تحجب فيه جوائز التقدير أو حفلات التكريم أو استدعاء أثر الباقين قبل الراحلين.. هل يجوز في بلد تتوفر فيه كل الوسائل الكفيلة بإحداث نقلة نوعية في عناوين الثقافة المحلية، أن تختصر علاقاته بالمبدع في المساعدة على نشر قصة أو كتاب أو ديوان شعر.. لتنسى بعد حين من أثر الغبار المتراكم عليها وعلى ذاكرة المسؤولين الهشة في مخازن تلك الجمعيات التي تدعى أدبية أو ثقافية.. هل فقدنا القدرة على امكانية البحث في وسائل استحداث جوائز لأعمال مميزة في كل مجالات الإبداع وليس فقط في حل ضيق دون سواه.. هل بلغ فينا العجز أن يكون موسم الثقافة لدينا هو موسم الجنادرية التي تختار شخصية التكريم قبل الحفل بأيام، فإذا حجب الموسم لسبب أو آخر فقدنا كل وسائل التواصل مع فكرة التكريم، وكأنها جزء من برنامج مهرجان نستكمل صورتها بلحظة مشهد يعترف ببعض الوجوه دون أن يكون أكثر قدرة على تقديم نسق تكريمي له مسوغات البقاء والتواصل والاقتراب من تلك الفئات أو الشرائح والنماذج، غايته ليس فقط الاعتراف بعطاء بل وتحفيز معنى البقاء على قيد العطاء. الاعتراف يا صديقي بحق ذوي العطاء وملكة الإبداع، العازفين عن الأضواء، المنفعلين مع وبحقائق الأشياء، والواقفين على نسق ذهبي يعزلهم قسراً أو طوعاً عن محيط البقاء في ذاكرة المجتمع، وقد اكتشفوا أنه أقرب للانهماك في عبثية أو انتهازية لا تألفها نفوسهم ولا تليق بعقولهم ولا تصمد أمام اشتراطاتهم للحياة والأحياء.. عنوان لم يتجذر في تربتنا بعد، وكأن أي اعتراف بهذا هو نقص في الذوات الخاملة الأسيرة لنزعة - يستعصي عليّ أحياناً تفسيرها في نفوس البعض جهلاً أو تطبعاً أو انسياقاً - ممن يثبطون أي فكرة تحاول انتشالنا من عقدة تجاهل الآخر - مهما كانت مواهبه أو مواقفه - ما دام يعيش في محيط اشترطته نزعة البقاء حياً بين الأموات. إلا أنني أخشى يا صديقي أن تكون هذه الدعوة أحياناً -أي دعوات التكريم - ميداناً ممكناً للتسابق نحو الأضواء، فالمشكلة ليست فقط في قصة تكريم أو اعتراف أو قراءة في ظاهرة تستدعي التأمل في شرقنا العربي - كما تراها - إذ يعيش ذو الموهبة فيه وكأنه لم يولد ويموت وكأنه لم يوجد.. الخشية ايضاً ان تكون فكرة استدعاء قيمة الموهبة أو الموقف أو التاريخ أو العمل الدؤوب والعطاء المتميز، فرصة ايضاً للخلط بين مقاييس التكريم، أو حق الاعتراف.. حيث تتحرك نزعة العصبية - أيا كان لونها - لتقديم مرشحها للاعتراف وحينها قد تختلط أوراق دعوتنا لتكريم من يستحق الاعتراف إلى حد ربما ندعو معه لإيقاف حفلات تكريم أو مناسبات اعتراف.. وذلك فقط عندما تختلط معايير الاعتراف بمقايسات شخصية أو استمزاجية أو نفعية.. وعندها ربما رثينا اعترافنا الصامت الجميل بحق أولئك المشترطين أو المتوقفين أو الراحلين من ذوي المواهب والعطاء على السواء.