الحوار الوطني مظهر جديد في بلادنا اقتضته الظروف الراهنة على الصعيدين الداخلي والخارجي، والحوار الذي يقام بهدف تطوير المجتمع وإصلاحه يحتاج إلى كثير من الرؤى التي تعمل على تعميق جذوره وتجاوز الخاص إلى العام، والتأكيد على نقاط الاتفاق قبل أن تتسع وتكبر نقاط الاختلاف، ذلك أن الإصلاح الذي هو غاية الحوار لا يكون بحلول مؤقتة أو وصفات مسكنة، وإنما يكون بالانطلاق من قاعدة تفاعل خلاّق بين المتحاورين نحو أهداف مستقبلية تؤسس على مسلمات وثوابت مشتركة . وعلى هذا فالحوار من حيث المبدأ لابد أن يكون بين أناس بينهم شيء من الاختلاف بقدر ما بينهم من الاتفاق حيث لا حوار البتة بين المتنافرين أو المختلفين كلية فلابد من وجود أرضية مشتركة على نحو ما تجمع المتحاورين، فتعدد الرؤى وتباينها شرط من شروط إقامة حوار ناجح، إذ لا يعقل أن يتحاور المتفقون وعلامَ يتحاورون؟ وبما أن تعدد الرؤى واستقلال الأفكار وحريتها مطلب للحوار، فإن الحوار لا ينجح مع وجود فكر الوصاية من قبل بعض المتحاورين تجاه بعضهم الآخر، أو إدعاء أحد الطرفين أنه يملك ناصية الحقيقة وحده دون سواه . وفي المقابل فإن أهم ما يجب تجنبه هو فكر الإقصاء واستحواذ أحد الأطراف واستبداده بأطر الحوار، ذلك أن الغاية النهائية من الحوار هي صياغة وعي جمعي يتقن الحوار ويستخدمه آلية فعّالة في جميع أموره. لقد مرّ علينا زمن لم نكن فيه نعرف ماذا يعني الحوار حيث سادت مجتمعنا خلال العقود الثلاثة المنصرمة ثقافة أفرزت مناخاً عاماً لا يتقن الحوار ولا يمارسه، وإذا مارسه فإنه لا يعدو أن يكون حواراً مغلفاً بكثير من التهم والتجريح والتشكيك في الآخر، أما ونحن نخطو خطواتنا الأولى نحو ثقافة الحوار، فلابد من التأصيل الجيد لهذه الثقافة بقبول الآخر المختلف واحترام حقه وحق المرأة في الحوار وتوسيع الهامش الموضوعي للتفكير والتعبير والجدل، وقبول التعددية الفكرية قبولاً حقيقياً، وتعميق النقد الذاتي واتساع الصدر له، فثقافة كهذه لا تعني إطلاقاً خنق الصوت الآخر أياً كان ومصادرة وجوده وإخفاء الخلافات والتستر على الفوارق وإنكار التناقضات والقفز على العورات. وإذا كان الحوار أحد أوجه الثقافة فإنه لابد له من أن يقوم على قضية يؤمن بها المتحاورون جميعهم وتكون الباعث على طرح رؤاهم وتحريك الطاقات الخلاقة، ولن يتأتى ذلك إلا بالاصطفاف حول الثوابت الوطنية الأساسية المحفوفة برغبة صادقة في القضاء على أيديولوجيا التشدد والانغلاق ومحاربة الفكر الذي يدعو إلى العنف والتطرف وبث روح الفرقة والنزوع نحو الإرهاب. ومن ثم السير بالوطن نحو كل ما يحقق للمواطنين ما يرجونه من إصلاح ورقي وأمن واستقرار. ولقد وعى المسؤولون عن مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني كثيراً من مفاهيم الحوار وغاياته وأدبياته فسعوا من خلال اللقاءات الحوارية إلى جمع عدد من المواطنين على اختلاف أطيافهم في مكان واحد للتشاور والتحاور وإبداء وجهات النظر في القضايا التي أعدت لذلك، وهو أمر غير مسبوق وثقافة لم نعتدها في بلادنا فقد سادت بيننا ثقافة التقسيم والاقصاء والنبذ وعدم الاعتراف بالآخر سنين عددا . وكانت التهم جاهزة لإلصاقها بهذا الفريق أو ذاك عبر تصنيفات ما أنزل الله بها من سلطان ووجدت قبولاً بين فئة معينة من المجتمع لا سيما الشباب المؤدلج. وفي نظري أن اللقاء الرابع للحوار الوطني حقق نجاحاً على أكثر من صعيد، من حيث إعطاء المتحاورين من الشباب والشابات مساحة من الحرية للتعبير عن رؤاهم وتصوراتهم، كذلك من حيث لغة الحوار ونبرة الصوت لجميع المتحاورين وحرصهم كباراً وصغاراً على نجاحه، هذا لا يعني أنه خلا تماماً من نبرة متطرفة أو رؤية متزمتة متطرفة كذاك الذي اتهم بعض المواطنين بالعمالة للغرب والاتصال بجهات أجنبية ! لكنه كان نغمة نشاز بين المتحاورين لأن الفكر المعتدل والمحترم لرؤى الآخر كان السمة الغالبة على الجميع رجالا ونساء . لقد كانت فكرة الملتقى الرابع رائدة من حيث جدتها وقدرتها على الوصول إلى عدد من الشباب والشابات وحثهم على التعبير عن مشاكلهم وهمومهم وقضاياهم ومقترحاتهم، هذا الأسلوب الذي امتد فشمل عدداً من مناطق المملكة عبر ورش العمل التي شارك فيها عدد كبير من الشباب والشابات وطرحوا رؤاهم وتوصياتهم ليناقشها زملاؤهم من الشباب مع الكبار من الأكاديميين والمثقفين ليصدروا بشأنها التوصيات النهائية، يعد فكرة جديدة وناجحة من كل النواحي ينبغي تعميمها في جميع مناطق المملكة عن طريق المؤسسات التعليمية ومؤسسات الشباب نظرا لحاجتنا في هذه المرحلة للتأسيس لثقافة الحوار وترسيخها بين الكبار والصغار بمناقشة كثير من القضايا الملحة التي فرضتها طبيعة المرحلة التي نمر بها . ولقد قام الحوار على أربعة محاور هي: الشباب والتعليم، الشباب والعمل، الشباب والمجتمع والثقافة، الشباب والمواطنة . وكل هذه المحاور على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة للشباب وبالنسبة للوطن وما يريده منهم حيث تنعكس كلها بصورة مباشرة على الوطن، فترقية مناهج التعليم وتطويرها ومسايرتها للعصر ووعيها بأهمية تنمية العقول تخرج شباباً منتجين وفاعلين وقادرين على المساهمة في دفع عجلة التنمية إلى الأمام، وإهمال التعليم وبقاء مناهجه على ما هي عليه منذ ثلاثين عاماً لا ينتج إلا جهلة تتقاذفهم الرياح الهوج وتلقي بهم في أتون الجماعات المتطرفة والمنغلقة على نفسها. كما تنتج شباباً غير مسؤول ذي سلوك غير قويم يميل إلى الصخب والعبث والاعتداء على حريات الآخرين والاستهانة بالوطن ومنجزاته. كما أن التقاعس عن إيجاد فرص عمل للشباب يصيبهم بالإحباط وفقد الانتماء للوطن مما يسهل انزلاقهم إلى عالم الجريمة أو الانضواء تحت لواء الجماعات الإرهابية. أما المحور الثالث فلقد تركز على "علاقة الشباب بالمجتمع ومؤسساته كما تعرض لتحديات العولمة والانفتاح الثقافي للشباب والعوامل التي تؤدي إلى الغلو والتطرف أو إلى الانحلال والتفسخ بين الشباب" مما يعني أنه سادت مجتمعنا خلال العقود الماضية ثقافة مجتمعية ذات شقين، ثقافة منغلقة متزمتة غرست في وعي الشباب أن الناس صنفان لا ثالث لهما مسلم وكافر، فكل أجنبي أياً كان دينه يجري تصنيفه على أنه كافر، وكل مواطن يُرى في مظهره ما يخالف الصورة النمطية التي اعتيد عليها وغُرس في الأذهان أنها صورة المسلم الحق فهو علماني وخارج عن حياض الإسلام، حتى لو كان يتردد على المسجد ولا يتأخر عن فرض من فروض الصلاة ! لأنهم اعتادوا أو لقنوا فكرة الحكم على الناس من المظهر لا من الجوهر، وقد أغلقت عقول هؤلاء الشباب دون التفكير العقلاني المنهجي المنظم، وقصرت أذهانهم قصرا على تأمل الأشكال والعبارات المكتوبة علهم يجدون فيها ما يحاكي شكل الصليب أو يحرف عبارة دينية أو كلمة مقدسة. وإذا كانت وزارة التربية والتعليم سارعت إلى التبرؤ مما صورته حلقة طاش ماطاش عن التعليم فمن المسؤول إذن ؟ أما الفريق الآخر الذي كان ضحية لهذه الثقافة التي تقاعست عن النهوض بما تمليه عليها المرحلة والعصر الذي نعيشه وما يفرضه الواجب الوطني، فهو شباب غير مسؤول شباب عابث يثير الشغب والصخب أينما وجد، ويستغل منجزات التقنية للتسلط على الآخرين وإيذائهم وانتهاك خصوصياتهم، شباب لا حظ له من تربية أوثقافة مجتمعية سليمة يجعلنا نضع أصابعنا في آذاننا في كل مرة نسمع أحدهم عبر القنوات الفضائية يطلب الحديث ويعلن أنه سعودي ! لأنه في الغالب سيتفوه بكلمة بذيئة أو عبارة تخدش الحياء وتسيء إلى وطنه قبل أن تسيء إليه وإلى من تقاعس عن القيام بتربيته وتوعيته وإفهامه أن حريته تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، وأن العالم كله تعارف على سلوك عام جرى إلزام كل الأفراد باحترامه وعدم انتهاكه تحت أي مبرر. هذا هو حال بعض شبابنا تطرف يقود إلى التزمت والرفض أو تطرف يقود إلى الفوضى والانفلات، كل هذا لأن المدرسة والمجتمع والمؤسسة الثقافية تخلت عن دورها التربوي والتوعوي وحصرته في أمور بعيدة كل البعد عن التربية الحقة مما جعل الوطن يحصد العلقم الذي كان نتيجة زرع قام به بعض منسوبي التعليم المتطرفين، وتخلي وسائل الإعلام عن دورها التوعوي، وحصر مؤسسات الشباب جهدها في كرة القدم لا غير. ولهذا أصبحنا لا نستغرب عندما يكون حضور بعض شبابنا خارج الوطن أو عبر القنوات الفضائية حضورا غير مشرف لبلادنا بسبب ما يرتكبونه من تصرفات غير مسؤولة، كما أصبحنا لا نستغرب من كون بعض شبابنا صار القاسم المشترك لأي عملية إرهابية تحدث في أي مكان في العالم . وأما المحور الرابع فقد كان محور الشباب والمواطنة ويناقش مقومات الوحدة الوطنية وسبل تعزيز الانتماء الوطني والعوامل التي قد تؤدي إلى إضعافه . وحسناً فعل القائمون على الحوار بطرح هذا المحور لأن تنمية شعور الانتماء للوطن لدى المواطنين عامة والشباب خاصة أمر في غاية الأهمية ولا سيما في هذه المرحلة التي تعاني فيها بلادنا أوجاعاً كثيرة نتيجة عقوق بعض أبنائها الذين استجابوا لقوى الشر فباعوا أنفسهم للشيطان وتواطؤوا ضد الوطن مع ابن لادن وزمرة الحاقدين الجاحدين من مشائخ التطرف، هذه المرحلة تحتم على جميع المخلصين التكاتف والتعاون لبناء منظومة من الأفكار والقيم الدينية والمجتمعية والإنسانية لتعميق الشعور بالانتماء للوطن فلقد مرّ علينا زمن خطف فيه هذا الشعور تحت مظلة من الأفكار والادعاءات حتى أصبح بعض مواطني بلادنا يرتبطون نفسياً وروحياً بأفغانستان والشيشان وغيرهما من بلاد العالم الإسلامي ويتفاعلون مع قضاياهم ويستميتون في الدفاع عنها أكثر مما يتعاطفون مع وطنهم، وليس أدل على ذلك من أموال الصدقات التي كانت تنفق بكرم فاق كل الحدود على فقراء ومشاريع في طوال العالم الإسلامي وعرضه وكأنه لا يوجد بين ظهرانينا فقراء يتضورون فقراً وفاقة، بل إن كثيراً من الذين يدينون بالولاء لتلك البلاد الإسلامية لم نسمع منهم صرخة احتجاج أو إدانة ضد ما يقوم به الإرهابيون من أعمال إجرامية في بلادنا، وهم إن تكرموا علينا وتفضلوا بالإدانة فإنهم يقومون بذلك على استحياء ومن باب ذر الرماد في العيون حيث لا يكفون عن مناداتهم بالشباب. في حين ينبغي أن تسمى الأشياء بأسمائها فهؤلاء ليسوا سوى حفنة من القتلة والمجرمين . وفي هذا المحور أي محور الشباب والمواطنة، طرح الشباب كثيراً من الأفكار والرؤى التي تنم عن وعي تام بالقضية الوطنية، والوسائل التي يرونها لتعزيز الانتماء الوطني وتحقيق المواطنة الصالحة، والعوامل التي تؤدي إلى إضعاف الولاء الوطني . أما الوسائل والبرامج التي رأى الشباب أهميتها في تعزيز الانتماء الوطني فمنها ما يخص الجانب التربوي والتوعوي وهو جانب مهم ينبغي على مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني أن يلزم الجهات التي من مهامها القيام بهذين الدورين التربية والتوعية كوزارة التربية والتعليم ووزارة الثقافة والإعلام ووزارة الشؤون الإسلامية تفعيل هذه التوصيات على وجه السرعة لأن ما يمر به الوطن لا يحتمل فكرة التأجيل أو الانتقاء، أو الاهتمام ببعض الأمور على حساب بعضها الآخر، أما توصيات الشباب في هذين المجالين فهي : - التأصيل الشرعي لمسألة المواطنة. - تشجيع روح المواطنة في الخطاب الدعوي. - تفعيل دور الأسرة في تنمية حب الوطن والانتماء له. - تطوير المناهج التربوية بما يضمن مساحة كافية لقضية الانتماء الوطني والاعتزاز بالوطن. - إعادة صياغة البرامج الإعلامية التي تتناول الوطن وتطويرها بما يجعلها أكثر تأثيراً. - البحث في آليات حماية الشباب من التحريض الخارجي. - تعريف الشباب بالأنظمة السياسية (نظام الحكم ونظام مجلس الشورى ونظام المناطق). - توعية المواطنين بالحقوق والواجبات. - توعية الشباب بمكانة المملكة في العالم وكذلك بالتحديات التي تواجه الوطن. - إعادة النظر في مقرر التربية الوطنية من حيث المحتوى وتضمينه نماذج قصصية عن الرواد وكذلك طريقة التدريس حيث لاحظ المشاركون ضعف الاهتمام بالمقرر من قبل الأساتذة أنفسهم ومعاملته كمقرر تكميلي . - تفعيل المناسبات الوطنية. - تعميم النشيد الوطني في كافة مراحل التعليم العام. وأخيرا أتمنى ويتمنى كثيرون غيري أن يسارع المسؤولون عن مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني إلى فرز التوصيات النهائية التي توصل إليها المتحاورون كبارا وصغارا وتسليم كل جهة من الجهات المسؤولة عن الشباب تعليما وتوعية وإعلاما التوصيات الخاصة بها ليتم تفعيلها ! تأكيدا على أهميتها وقطع الطريق على الذين يقولون إن الحوار الوطني ليس إلا وسيلة للتنفيس عما في صدور المتحاورين ليس إلا .