أشرت في المقال السابق إلى دور مؤسسات التعليم العالي في تحقيق النهضة والتفوق للولايات المتحدة في هذا العصر، فالجامعات العريقة والمؤسسات الأكاديمية الأخرى تعد البيئة الحقيقية التي تؤهل الملايين وتعدهم وتحتضنهم من العلماء والباحثين والأكاديميين والمختصين الذين ساهموا في تقدم العلم والمعرفة والصناعات المدنية والعسكرية والتطور التكنولوجي والازدهار الاقتصادي، وساهموا في تعزيز تفوق الولاياتالمتحدة على الساحة الدولية حتى أصبحت الدولة المؤثرة في المجالات كافة. إن أبرز سمات التعليم العالي في الولاياتالمتحدة أنه يمثل قيمة أساسية لدى الشعب الأمريكي، فالحصول على شهادة جامعية يعد - بحد ذاته - المطلب الأدنى للفرد للنجاح في الحياة وتأمين مستقبل وظيفي مضمون، ولهذا تستعد الأسرة الأمريكية منذ وقت مبكر لإلحاق الأبناء والبنات في الجامعات العريقة والمشهورة بعد تخرجهم في المرحلة الثانوية، وإذا لم تفلح محاولاتهم نتيجة المتطلبات الأكاديمية أو عدم القدرة الاقتصادية فتسعى لإلحاقهم بإحدى الجامعات الحكومية التي تنخفض رسومها نتيجة الدعم الحكومي. أما إذا تعذر القبول في تلك الجامعات فإن الخيار الآخر هو توجيههم لكليات المجتمع التي تمنح الدارس دبلوماً لمدة عامين وبعدها يحصل الطالب على فرصة التحويل إلى الجامعات، أو التوجه إلى العمل ومن ثم محاولة اكمال دراساته في المستقبل. ومن أجل الاستعداد للدراسة الجامعية تستثمر كثير من الأسر بعضاً من دخلها المادي في حسابات بنكية خاصة بالأطفال حتى إذا بلغوا المرحلة الجامعية وجدوا مصاريف الدراسة متوافرة لدى الأسرة، وتستفيد كثير من الأسر أيضاً من القروض والمنح الدراسية التي تقدمها المؤسسات الحكومية والخاصة لدعم التحاق الطلاب بالتعليم العالي. هذا الاهتمام بالتعليم العالي أدى إلى انتشار الجامعات والكليات في جميع الولايات والمدن الكبيرة والصغيرة مما أوجد فرصة مواتية لكل راغب في التعليم، ليس فقط لأبناء البلاد بل وأيضاً إلى تشجيع التحاق الطلاب الأجانب من الدول الأخرى متى ما توافرت الشروط الأكاديمية والمقدرة المالية. هذا الانفتاح على العالم الخارجي ساهم في استقطاب أفضل الكفاءات العلمية من جميع دول العالم، فالطلاب الأجانب الذين يحصلون على شهادات علمية من جامعات أمريكية يجدون بسهولة عملاً مناسباً في الشركات والمؤسسات الحكومية والخاصة وبذلك يتحولون من طلاب أجانب إلى مهاجرين جدد يحصل بعضهم على الجنسية أو الإقامة الدائمة ويتحولون إلى قوة بشرية تساهم في تعزيز مكانة الدولة الجديدة. إن من يطلع على إحصاءات التعليم العالي في الولاياتالمتحدة يصاب بالدهشة والتعجب من هذا العدد الكبير من المؤسسات الجامعية التي أنشئت.. فإحصاءات التعليم العالي للعام المنصرم 2004م تشير إلى أن عدد المؤسسات التعليمية الجامعية يتجاوز أربعة آلاف جامعة وكلية يوضحها الجدول التالي، وهذا العدد لا يتوافر - فيما أعلم - في أي دولة أخرى في العالم. فولاية كاليفورنيا لوحدها التي يبلغ عدد سكانها 35مليوناً ونصف المليون تحتل المرتبة الأولى من حيث عدد المؤسسات الجامعية ب 399جامعة وكلية، وتليها ولاية تكساس التي يبلغ عدد سكانها 22مليون نسمة ويوجد بها 201جامعة وكلية جامعية. انظر جدول رقم (1) والسمة الأخرى التي يوضحها الجدول هي المشاركة الأهلية في إنشاء الجامعات والكليات وتأسيسها بمختلف أنماطها، بل إن الجامعات المرموقة التي تحظى بالسمعة العالمية مثل هارفرد وستانفرد وبيل ودوك وبنسلفانيا وبيركلي وغيرها كثير هي جامعات أهلية غير ربحية أنشئت من قبل مؤسسات وأفراد وأصبحت لها أوقاف واستثمارات ضخمة مما جعلها تتطور وتغدو من أهم مراكز التدريس والبحث والتدريب وإعداد القادة السياسيين والاقتصاديين في الولاياتالمتحدة وغيرها من دول العالم. وعلى الرغم من اتساع هذا النوع من الجامعات والكليات الأهلية غير الربحية إلا أن اتجاهاً جديداً بدأ منذ سنوات بالتوسع في الجامعات والكليات الربحية التي تشكل بحد ذاتها مؤسسات اقتصادية استثمارية حتى بلغ عددها وفق آخر احصائية (297) جامعة أهلية تمنح درجة البكالوريوس، و(494) كلية تمنح درجة الدبلوم أو ما يسمى ببرامج العامين الدراسيين. ومما يميز مؤسسات التعليم العالي في الولايات الإنفاق الضخم على هذا النوع من التعليم ومن مصادر مختلفة. فعلى الرغم من أن الجامعات والكليات الأهلية والحكومية تتقاضى رسوماً دراسية من الطلاب الملتحقين بها، إلا أن تلك الرسوم لا تمثل سوى نسبة محدودة من ميزانيتها السنوية، وتقدم المصادر الأخرى مثل الدعم الحكومي وعقود البحث العلمي والاستشارات والاستثمارات والأوقاف والهبات الدعم الحقيقي لتلك المؤسسات. وتشير الإحصاءات كما هو موضح في الجدول رقم (2) أن إجمالي الانفاق على التعليم العالي في الولاياتالمتحدة يتجاوز 250مليار دولار أمريكي في العالم الواحد، وهو رقم ضخم جداً مقارنة بما ينفق على التعليم العالي في دول العالم الأخرى. انظر جدول رقم (2) ومن مصادر التمويل الأخرى لمؤسسات التعليم العالي التي لا يوضحها الجدول الهبات والهدايا المالية الضخمة التي تقدمها المؤسسات الأهلية سواء أكانت شركات ومؤسسات اقتصادية أم مؤسسات خيرية، فمثلاً تقدم مؤسسة بيل وميلندا غيتس مؤسس شركة مايكروسوفت منحة للعلماء مقدارها بليون دولار لمدة عشرين عاماً لعدد من البرامج الجامعية، وقدمت مؤسسة وليان وفلورا هيلويت الخيرية هبة لجامعة ستانفورد عام 2001مقدارها 400مليون دولار، وقدمت مؤسسة باتيرك ولورا مكفوفن لمعهد ماسشوتس للتكنولوجيا هبة مقدارها 350مليون دولار.. وهكذا. أما الأوقاف فهي تمثل أيضاً واحداً من مصادر التمويل للجامعات الأهلية، فقد بلغ إجمالي أصول الأوقاف لجامعة هارفرد لوحدها 18مليار وثمانمائة مليون دولار، تليها جامعة بيل بأكثر قليلاً من 11مليار دولار ثم جامعة برنستون ب 8مليارات دولار. وتقدم اتحادات الخريجين التي تسمى Alumnni Associations أيضاً دعماً مالياً ومعنوياً مهماً للجامعات الحكومية والأهلية، حيث تهتم الجامعات بإبقاء روابط وصلات مع خريجيها وتدعوهم دائماً للمساهمة في دعم الجامعة وبرامجها. وفي احصاءات التمويل للعام 3002/2002حصلت جامعة هارفرد على المرتبة الأولى من حيث دعم اتحاد الخريجين حيث حصلت على 285مليون دولار من تبرعات وهبات الخريجين، تليها جامعة تكساس في أوستن حيث حصلت على 205ملايين دولار ثم جامعة كورنيل حيث حصلت على 172مليون دولار. ومن سمات التعليم العالي في الولاياتالمتحدة الاهتمام بالكفاءة العلمية والمهنية حيث أنشئت العديد من المؤسسات المتخصصة وبجهود تطوعية من قيادات التعليم والمختصين وأعضاء هيئة التدريس لوضع معايير الاعتماد الأكاديمي وتقويم البرامج الجامعية على ضوء هذه المعايير التي تتجدد وتتغير باستمرار من خلال ما يطرح في المؤتمرات والندوات العلمية المتخصصة. وقد ساهمت هذه المؤسسات في رفع مستوى التنافس بين الجامعات والكليات وجعلها تتطلع دائماً للحصول على اعتراف أو تقويم خارجي من جهات محايدة لمستوى برامجها ومدى كفاءتها العلمية. لقد أصبح التنافس بين الجامعات والكليات للحصول على سمعة علمية في الأوساط الأكاديمية أحد محفزات التطور في التعليم العالي حيث تسعى الجامعات إلى استقطاب أفضل الطلاب علمياً لتسجيلهم في الجامعات وكذلك استقطاب أفضل أعضاء هيئة التدريس والباحثين والمساعدين وغيرهم من الخبرات الفنية والإدارية. والاهتمام بالجودة والنوعية لا يعني عدم وجود مؤسسات متواضعة لا تهتم بالمعايير الأكاديمية والسمعة العلمية فهي موجودة ولكنها لا تمثل نسبة كبيرة في مؤسسات التعليم العالي ولم تؤثر يوماً من الأيام على تنافس المؤسسات الجادة والمتميزة. ومن سمات التعليم العالي في الولاياتالمتحدة مناخ الحرية الواسع الذي تتمتع به الجامعات والكليات، حرية الإدارة وحرية الفكر وحرية الدراسة والبحث والنشاط فالجامعات تعج بالأنشطة العلمية والسياسية والاجتماعية والثقافية والرياضية المختلفة، والفرد النشيط يجد مساحة للعمل ضمن المؤسسات القائمة داخل الجامعات، فالجمعيات العلمية مهتمة بالندوات والمؤتمرات والبحوث والنشر، والاتحادات الطلابية تتنافس في أنشطتها السياسية والثقافية والاجتماعية، والمكتبات تعج بالمعارض الفنية والأنشطة الثقافية، وإمكانات الجامعة متوافرة للجميع ضمن شروط وأنظمة شفافة - في الغالب - تتيح للجميع العمل بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية أو العرقية أو حتى باختلاف دياناتهم وثقافاتهم وجنسياتهم. إن تفوق الولاياتالمتحدة على الصعيد السياسي والاقتصادي والتكنولوجي لم يأت من فراغ بل جاء نتيجة وجود بنية علمية صلبة تتمثل في بناء مؤسسات ذات كفاءة عالية في التعليم العالي ومؤسسات جديرة بالبحث العلمي وشركات ومؤسسات للإنتاج والتصنيع التي تستفيد من تلك العقول النيرة التي تحتويها تلك المؤسسات الجامعية والبحثية. وفي مقال قادم أقدم بعض المقارنات بين الجامعات الأمريكية والجامعات العربية مع طرح بعض الانطباعات والتجارب الشخصية التي قد تحرك بعض الهمم لتطوير جامعاتنا وكلياتنا لتؤدي الدور نفسه الذي تؤديه الجامعات الأمريكية في تفوق المجتمع والدولة.