من السهل على كثيرين أن يكيلوا الاتهامات، لمن يمدحون إمبراطورية أميركا، وأن يتهموهم اتهامات تبدأ من تهمة السذاجة وتنتهي بتهمة العمالة والرجعية! أخيرا قررت أن أعمل دعاية مجانية لأهم إنجازات أميركا خلال خمسة قرون، وأدعي بأن هذا الإنجاز أكبر بكثير من التكنولوجيا الحربية الأميركية، وأكبر من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وحتى أهم من عملة الدولار الأميركية، وأغنى من كل حقول البترول والمعادن، وقد شجعني على ذلك العدو الأكبر للولايات المتحدة، وهو الصين. فجامعة شنغهاي للاتصالات في الصين نشرت إحصاء لأبرز 500 جامعة في العالم، فجاءت جامعة هارفارد في المرتبة الأولى، وهي الجامعة التي أسسها جون هارفارد عام 1636 في ماساشوستس، من أملاكه الخاصة وأهدى لها مكتبته أيضاً! حاولت العثور على سرّ قوة هذه الجامعة، من خلال صفات أخرى لم يشر إليها الإحصاء، فتابعت صفحاتها الإلكترونية، وما نشرته عنها موسوعة «لكسكون» وصحف كثيرة! لم أصب بالدهشة والإعجاب بسبب مساحتها الكبيرة التي تقدر بأربعة آلاف وتسعمئة وتسعة وسبعين فداناً، ولم ألتفت إلى عدد خريجيها وطلابها، لأن معظم جامعات العرب تتفوق عليها في عدد الخريجين والطلاب، ولم أفاجأ من إحصاء جامعة شنغهاي الذي لم يذكر اسم أية جامعة عربية ضمن الخمسمئة جامعة البارزة في العالم، ولم يدهشني حجم كليات هارفارد البالغ 11 كلية، وهذا أقل بكثير من عدد الكليات في أي جامعة صغيرة من جامعات العرب، وإنما استوقفتني ثلاث ميزات لهذه الجامعة: الأولى هي أن خريجيها حصلوا على 43 جائزة نوبل حتى الآن، ما يجعلها رائدة في الابتكارات والإنجازات في كل مجالات العلوم، بغض النظر عن سياسة مانحي شهادة نوبل واعتباراتهم غير الأكاديمية. أما الميزة الثانية والتي وردت بالصدفة في صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية فهي موازنة الجامعة المالية واستثماراتها التي تبلغ 26 بليون دولار، وهذا الاستثمار هو أضخم استثمار جامعي في العالم. والميزة الثالثة هي أن هذه الجامعة بؤرة إشعاع ثقافي وعلمي في معظم أقطار العالم، وسأذكر بعض خدماتها. تتصدر الخدمات الطبية والاختبارات البيولوجية ومراكز الأبحاث والدراسات أول إنجازاتها. وفي مجال البيئة والمياه لها مراكز دراسات وأبحاث في كثير من البلدان، وعلى رأسها مركز رئيس في هندوراس. أما عن مراكز الحقوق والقانون، فهي أكثر من أن تحصى، وكذا في مجال الإدارة والتأهيل للشباب، والأمر مشابه في المجال الإعلامي، فما أكثر خلاياها في العالم، وفي مجال التربية والتعليم وصولاً إلى أحدث برامج تعليم الكبار ومحو الأمية، أما عن الطفولة فنشاطاتها كثيرة، وكذلك الحال في برامج الغذاء والكساء في باكستان والهند وصولاً إلى إعادة بناء جزيرة هايتي المدمرة بالزلزال الأخير، وحتى في مجالات مكافحة الأمراض السارية كالملاريا وغيرها من الأوبئة والأمراض، وهي بالإضافة إلى ذلك تدعم برامج الأممالمتحدة في مجال السلام، أما عن الآداب والفنون فالبرامج عديدة تبدأ بتنمية القصص بين الأطفال والشباب لغرض إزالة الحواجز النفسية، والتدريب على الفنون بمختلف أقسامها. ما ذكرته من إنجازات للجامعة أصغر بكثير مما نشر عن إنجازاتها. إذاً، جامعة هارفارد تستحق أن تحظى بالمرتبة الأولى بالنظر إلى إنجازاتها وإشعاعاتها في كل مجالات العلوم، وهي تمكنتْ من الحصول على هذه الرفعة من خلال تبنيها فلسفة «البراغماتيزم» وهي التي دفعت أميركا إلى الأمام علمياً وتكنولوجياً، فقد احتضنت أفكار مؤسسي البرغماتية وشجعتْ طلابهم ومريديهم. ومن أبرز فلاسفة البرغماتية لايبنتز في القرن الثامن عشر، ثم وليم جيمس وتشارلز بيرس وجون ديوي في بداية القرن العشرين، هؤلاء جميعهم أرسوا قواعد الجامعة الفكرية، وهذا دفع جامعتي إكسفورد وكامبردج إلى تقليد هارفارد في مسيرتها العلمية العملية. ما دفعني الى استقصاء جهد هذه الجامعة هو ما أشعر به من إحباط وقهر، وأنا أتابع مسيرة معظم الجامعات في الدول العربية والنامية، هذه الجامعات التي تحولت بسبب غياب سياستها التعليمية، آلات تنسج عباءات الوجاهة للجاهلين والأميين فقط لا غير، ويعود السبب إلى خوف كثير من الأنظمة السياسية العربية من النظام الجامعي التنويري، وهو في نظر كثير منها يهدد أنظمتها الرسمية ويطيحها، لذلك أقدمت بعض الحكومات على احتكار الجامعات وتحويلها مؤسسات حكومية، واعتبار أساتذتها موظفين حكوميين، وبناء على هذه النظرة الاحتكارية الحكومية تحولتْ الجامعات دفيئات لتخريج صيصان وكتاكيت الموظفين، وغدتْ كثير من جامعات العرب عبارة عن مطابع فخمة لطباعة الشهادات والألقاب العلمية والجامعية! ويمكننا أن نضيف إلى مسلسل الانتقادات الموجهة للجامعات في الدول العربية، نقداً آخر يخص الجامعات الفلسطينية، التي تكاثرت وتفرعت وتعددت وتنوعت، على رغم شح المصادر وقلة الخبرات، وضعف الإمكانات، وأصبح كثير منها مشاريع تجارية شخصية، لا تخضع لأي اعتبارٍ علمي أو تنويري أو وطني، ولعل أبرز نقد يوجه للجامعات الفلسطينية مضافاً إلى الانتقادات السابقة، هو تحول عدد كبير منها إلى بؤر حزبية سياسية، يطغى فيها السياسي على الجانب الأكاديمي والعلمي، كما أن تلونها باللون السياسي والحزبي، لم يأتِ لإغنائها علمياً وأكاديمياً، بل لإنهاكها وإقصاء الكفاءات والمبدعين من الطلاب والمحاضرين والأساتذة، بتهمة خروجهم عن مبادئ الأحزاب التي تسيطر على كثير من الجامعات! سأظل أتمنى ما حييت أن تحسب الجامعات العربية والفلسطينية (تفوقها) بعدد الأبحاث العلمية المحكمة، وليس بعدد الملتحقين بها وعدد خريجيها! وسأظل أحلم بأن تفخر هذه الجامعات بإنجازاتها في إبراز المواهب الشبابية والكفاءات العلمية، بدلاً من أن تفخر بتوسيع قاعات محاضراتها، وعدد محاضريها وأساتذتها. سأظل متلهفاً إلى رؤية اليوم الذي تتحول إحدى جامعاتنا الفلسطينية إلى مركزٍ للدراسات والأبحاث البيئية، والاقتصادية والاجتماعية، وأن تنقل خدماتها من مكاتبها الفخمة إلى مراكز إشعاع في كل مدينة وقرية صغيرة من قرى الوطن. وسأبقى مشتاقاً حالماً بيوم يعيشه أحفادي حين يتغير نظام القبول التقليدي في الجامعات بحيث يصبح القبول في الجامعة، لا بحساب النسب المئوية التي حصلوا عليها في امتحان الثانوية العامة (المنقرض)، بل وفق اختبارٍ جامعي خاص بالجامعة نفسها يقوم فيه الاختبار على أساس فلسفة الجامعة التربوية والتعليمية المعتمدة على هدفٍ طموح، غايته التقدم والرفعة والعدل والمساواة والسلام والعيش المنتج.