ميلان هي بجدارة التلخيص لرائعة دافنشي Ultima cena (المشهد المطلق)، حيث الغدر بالمسيح وصلبه في لوحة تنبسط على جدران حجرة يمكنك التجول داخلها وتلقي خيانة يهوذا والانتهاء لمشهد الصلب.مدينة كل مافيها يسعى لمطلق، وفي سبيل ذلك تحولك لنقطة دم تحت شمس الغروب المنعكسة على الرخام الوردي لكاتدرائية الدومو، ينصحونك مشككين في عزيمتك وقوة جذعك بتسلق ال919 درجة خارجية لليسار صاعداً لقمة الدومو المزينة ب135 حلية مقرنصة، ومستجيباً للتحدي تأخذ تصعد، عند الدرجة المئة تبدأ ركبتاك بالارتجاف وعمودك الفقري بمفارقتك، بعدها، لاتتقدم بساقيك وإنما يحملك رأسك، يطفوبحلمه بالوصول للقمة ويشدك في غيبة، تعاودني ذكرى صعود قبة سانت بيترو بالفاتيكان، هناك الوضع أكثر تعقيداً حيث وكلما ارتقيت يميل عليك جدار السلالم ويسقط السقف ليمس اضلاعك وتلهث لأقرب كوة في السلالم لالتقاط أنفاسك، تشعر أن العالم يطبق عليك قبل أن يأذنك لسماواته، ويرعبك تخيل البنائين الذي عانوا كل ذلك بينما هم يملسون ويجودون جدران القبة بكل تكرس وحميمية، من أين جاؤوا بالصبر وبالشغف وبالإيمان لاحتمال هذه الارتفاعات والضيق لإنجاز تحفة منصوبة في السماء كمتاهة؟؟؟ بينما هنا، في الدومو - التي هي الثالثة من حيث الحجم بعد سانت بيترو وكاتدرائية أشبيليا - أنت تصعد في هواء طلق وسقفك السماء، حتى إذا انفتحت أخيراً للقمة وبنفخة واحدة تجد نفسك مبسوطاً للسهول من كل جانب حتى جبال الألب، لا تستأذنك روحك تتبع بصرك فتخترق ولاترجع. بلا ساقين تنتهي مدوخاً لالتقاط مخيلتك في مطعم سافيني التاريخي بجاليريا فيتوريو، وحولك تتفرع تحفة الملك فيتوريو إيمانويل الثاني، واحد من أوائل المباني في أوروبا المبنية بالزجاج والحديد، يمتد المبنى مثل صليب متمركزاً حول قبة عظيمة، وبني ليكون المكان التقليدي لاجتماع الميلانيين، وتحول الآن ليمثل قلب المدينة بمكتباته وحوانيته ومقاهيه التاريخية. أمامك يتقاطر رواد لاسكالا والذي يعد أهم معبد للموسيقى الكلاسيكية وعروض الغناء والشعر في أوروبا، جمهور فاخر ومشدود للأصوات التي تجيء خافتة مما وراء الأنصاب، بقايا من تراجيع بافاروتي وكاريرا ودمينغو تهدهدك بينما هذا الطفل بين الأقدام يتفنن في التشقلب بمزلجته على الحجر العريق لافتاً الأنظار مستجدياً قروشاً معدنية بالغة الخفة. يذكرك الجميع بأنك قاب قوسين من ألف ليلة ميلان، 24 سبتمبر موعد انطلاق أسبوع الموضة، حيث يستحيل ليل ميلان لنهار حول منصات عبور العارضات الرشيقات بالتصاميم التي هي عصارة المخيلة البشرية، مصممون يقتبسون حضارات العالم لكسوة أجساد النساء والغلمان، يقتبسون لعلعة الألوان والتزهير السيبيري من قلب روسيا والتيبيت وحليات المايا لتوليد حرارة الثياب التي لاتضاهى، صقيع وحرارة الشرق والغرب معصورتان للخلوص بتركيبات تجعل من الجسد لوحة فنية، إبداع يحيل هذه المنصات الإيطالية لمسارح كونية تختزل حضارات بلا آخر. في مجلة الدعاية في الفندق ترد هذه العبارة (في وقت مضى قامت مجموعة من الشركات اليابانية بدراسة وتعريف عبارة: صنع في ايطاليا. ليكتشفوا أن المصنوعات الجميلة والمصنوعة بعناية لم تكن فقط نتيجة لخمسين عاماً من خبرة التصنيع، وإنما من أسس تاريخية كلاسيكية عالمية ظلت تنتقل من جيل لجيل نابعة بجذورها من عصر التنوير ومنفتحة لاستقاء روح العالم، المنتج الإيطالي يحمل تاريخه ليتشعب لكل بيئة حية)، الاتجاه السائد في الموضة الآن هو السعي لملاءمتها مع تصاميم الأثاث، في اعتماد الفن مثل فن جوستاف كليمت وشجرة الحياة التي رسمها، والفنان أنتونيو جودي، وغيرهم، الموضة (وأجساد النساء) هي المصب الذي تتجمع فيه القريحة الإبداعية، ويحرص المصممون مثل فيونا وينتر وأينريكو وربرتو دي وان، الذي يؤكد أن (الصين قد أصبحت منافساً محفزاً للقريحة الغربية وتشجيعها للإبداع، للتفوق على هذا المد الحرفي الشرقي،وأن العولمة قد ساعدت على تمديد الوحدة الغربية لتجتاح كوكبنا بنتاجها، مما يشجع الطبقة العليا والمتوسطة على البحث عما يناسب أذواقها وعن التميز خارج المنتجات التي تحمل بطاقة صنع في الصين). «هو سروال رجالي». ينبهني البائع حين تمهلت لتفحص هذا البنطلون المطرز بخيوط الفضة والخرز من تصميم روبرتو كافالي المتأثر بالريف الروسي! ولايتوقع ذلك البائع مني دهشة، حيث اعتادوا على أن أكثر الأزياء بهاءً وغنجاً رجالية، ربما لاعجب حيث الحضارات قائمة على الزركشة، ويكفي التأمل في أزياء المحاربين ابتداءً من أفريقيا وانتهاءً بالمغول وغيرهم، وقبل كل شيء الزي الكنسي في أعلى مناصبه. خلال العامين الماضيين كانت قد تمت تجربة لإحياء الليل الميلاني أطلق عليها اسم (ليل ميلاني لاينام) بدأت ليلة 18 يونيه 2005، حيث أمضى مايزيد عن المليون ميلاني الليل ساهرين في شوارع ميلان وميادينها وحدائقها، مستمتعين بلا حوادث تذكر بالأربعمائة حدث ثقافي التي أحيت ذلك الليل مجاناً، ومنها المشي في حدائق سيمبيون، وزيارة للمنطقة التاريخية لنادي السياحة، وحفلات موسيقية في ميدان سانتو ستيفانو، ومهرجان الخبازين، الذي وزع فيه على السمار أنواع الخبر والبروشيه المخبوزة طازجة في تلك الليلة وحتى الفجر، ونظمت قراءات شعرية في مناطق مختلفة مثل ناطحة سحاب بيريل: «حب جديد تولد بين المدينة وسكانها من تلك الليلة. المدن يجب أن تحيا، أن تدعى لتنبض بالحياة لا أن تتحول لمتحف ميت». كما جاء في تعليق المواطن جيوفاني بوزيتي. وتحاول ميلان تكرار التجربة في ليالي بيوت الموضة في الأسبوع الأخير من سبتمبر.