عندما نتناول النص الشعري بالقراءة النقدية، فإنه ينبغي لنا أن نملك ركائز القراءة النقدية التي تصل بنا إلى مانريده. وعندما نريد أن نقرأ نصاً شعرياً متفرداً، فإنه ينبغي علينا أن نكون أكثر دقة في الاختيار حتى نجد ما يشبع رغباتنا الذوقية من خلال تلك القراءات.. ولربما نصاً شعرياً واحداً لشاعر فذ تغنينا قراءته عن ديوان شعر بكامله، هذا إذا ما كانت قراءتنا له متفردة وكما ينبغي أن تكون.. شاعرنا لهذه القراءة، من رواد الإبداع في صياغة وكتابة النص الشعري، متفرد لا ينقصه الإبداع عاش في زمن الشعر الصادق وفي بيئة الحس المرهف الذي يتكىء على روح المعاناة الصادقة. هو من قال: أكتب أبيات تلألأ نظمها لم تزل مني تناقلها الروات الشاعر المبدع/ محسن الهزاني صاحب الإبداع والتفرد في العديد من أغراض الشعر ولعل منها الشعر العاطفي الصادق الذي يصور لنا بيئة الحب والصدق. وفي قصيدته المشهورة هذه (نجل العيون) أتى إلينا ولا زال معنا حتى الآن بكل إبداعه وبكامل أناقته الشعرية التي بها وصل إلى قلوب الكثير والكثير من عشاق الشعر الشعبي.. عاش شاعرنا بيئة فرضت عليه الإبداع وفرضت عليه التألق في صياغة النص الشعري من خلال اختياره للمفردات والمعاني ثم الأهم من ذلك كله صورة المعاناة التي تجسد لنا مدى الصدق خصوصاً في هذا النص الذي سأستعرض عدة جزئيات منه.. يقول في بداية النص: دن كتاب وقرب لي دوات وأنت عجل يانديبي ثم هات لي سجل وأبرلي رأس اليراع باغي من حيث ماتدري الوشات أكتب أبيات تلألأ نظمها لم تزل مني تناقلها الروات استهلال يتصف بالعمق في بداية الفكرة، مع قوة في المعنى حيث يريد الشاعر هنا أن يكتب وهذا هو الواضح ثم يريد القلم (اليراع) وهو جاهز ليبدأ الكتابة وهذا يدل على أن الشاعر أتته الفكرة ولايريد أن يفقدها وهنا تأتي صورته وهيئته وهي سريعة.. يريد الكتابة، ثم يؤكد بأن ماسيكتبه سوف تتناقله الرواة وهذا دليل على ما يتمتع به من ثقة بنفسه في ماسيقوله من شعر وأرى هنا بأن الثقة مطلب هام لدى أي شاعر وخصوصاً المبدع. ثم يقول في إضافة لما سيكتبه: كازمرد واللوالو بالعقود قاربن ما بينهن الناظمات وهنا يصف ما سيكتبه باللؤلؤ عندما يكون في العقد.. وأعتقد هنا بأنه يريد بذلك مدخلاً لما سيصفه في غزل مشحون به قلبه وفكره، ثم يقول في بداية وصفه العذب: كنهن إذا تجاذبن الحزوم بالتماري من بعيد مقفيات جول ربد يجتول عقب إيتلاف جافلات بالحبايل شايفات أوقطا دارعن لفح السموم من غدير لي غدير واردات ما أروع هذا الاستهلال الوصفي لذلك الجمال الذي يخالطه الخوف و(الجفول) لتلك الغزلان وهي في أسرابها تمرح من غدير ماء للآخر وهو هنا يصف ذلك الجمال الشارد الذي يداعبه بالدلال والتوجد والآه.. ثم يستشعر توجده وألمه وآهاته في قوله: فاخر بالشم عن ريح الزباد والمذوقة فاخر طعم النبات من حشا قلب مشقا من زمان من زما وله زروع هايفات وهنا ذكرى وألم يجسده الشاعر في هذين البيتين من خلال مابداخله من توجد ووجد صادق وقد نستشعر ذلك من خلال صياغته البديعة للمفردات البيتين الجميلة. ثم يأتينا هنا في صورة فريدة وجميلة بل قلما نجد مثلها الآن عندما يقول: من ينال مناه في طول الزمان بالضمير رياض حبه ناعمات بعدها ذا ياشقا عين الحريب باحجا اللاجي وستر المحصنات ويقول: منتها سدي او ملفا ماأقول من لعيني قرت طول الحيات من بقلبه لي وداد مثلما مهجتي له من قديم الحب هات نابتات من مطر سحب الوداد بالتمني والتوجد مورفات أشتكي لك من هوى نجل العيون يوسفيات المها حمر الشفات هنا شاعرنا الفذ أخذنا بهكذا تسلسل إلى عالم من الإبداع الشعري والصياغي للمفردة ذات التراكيب المفعمة بالنسق الجزل والقوي فهو هنا يبين لنا بأنه وبكل ما يملكه من آه ووجد وتوجد وشكوى وألم فراق في ألم وحزن وإلا لما صاغ تلك المعاني الذي جعلنا وبكل صدق نذهب معه الى حيث نهاية تلك الذكرى الغارقة في الوجد. ثم يغرق شاعرنا في الوصف الذي لايمله القاريء والمتذوق فيقول: عنبريات الروايح بالكمال في جمال قايمات قاعدات والثنايا والعوائق والخدود صافيات ناعمات كاملات مقبلات مقفيات لو رأيت بالمحاسن والماضي ماضيات ثم يقول في هذا البيت الرائع والمبدع في وصفه بالنواظر والمفاليج العذاب مغزلات مغضيات ضاحكات في هذا البيت وبمفرده صورة شعرية قد تغني عن قصيدة كاملة لأن نسق الوصف فيه أخذنا إلى عالم كامل من الدقة التي قد لا يصل إليها أحد ولذلك نجد أن هذا البيت بالذات هو حديث أغلب مجالس الشعر حتى وقتنا الحاضر. وفي صورة أخرى يقول: عذبني باعتدال وإنعواج وإنغماز كالبروق الموضيات وإبتعاد واقتراب وارتحاب واشتمام عطورهن الفايحات هنا يصف الشاعر ما (للدلال) من أهمية إذا كان ممزوجاً بالجمال الذي هو هنا محور حديث الشاعر ثم يقول: إن بغيت الصبح قالن جنح ليل وإن بغيت الليل قالن بالغدات وإن تناسا خاطري وقلت أتوب ماحني ياعشيري بالسكات مهنا إيضاح في كلمة (عشيري) الذي هو من استفز فكرة ووجدانه ليقول هذه الرائعة ويختتم شاعرنا الفذ رائعته بقوله: تحسبني سالي لوني بعيد لا وخلاق الجبال الراسيات وأخف عن كل الملا ما أنت فيه لا بلاك الله بسو الحادثات وانتها نظمي ومنطوقي على سيد الكونين نختمه بالصلات وبعد، هذا هو الشاعر الكبير محسن الهزاني الذي يتصف بقوة قصائدة ودقة نسقها وتراكيبها.. قضينا مع رائعته تلك ما أوضحه لنا من وجد وتوجد وآه.. جعلنا نتشوق أكثر لأن نقرأه ونقرأله دائماً. وإلى قراءة أخرى .