يعلم كثيرون مدى أهمية جهود الدكتور عبدالله الغذامي واجتهاداته ناقداً أدبياً وناقداً ثقافياً. فهو لا يكتب إلا في مقام البحث عن الجديد الذي يمكن أن يجدد الفكر ويثير الجدل حول القضايا والوضعيات والخطابات حتى لا يطمئن أحد إلى ما كان يعرف من قبل فتذوي فيه قبس القلق والبحث والتساؤل. من هذا المنطلق أريد لهذه المقالة أن تكون حواراً معه ومع محبيه ومتابعي كتبه وكتاباته في هذا الملحق. فلقد لاحظت من قبل وتأكد لي تالياً بانتظام أن مفهوم «النسق الثقافي» عنده لم يعد يشتغل في خطابه كأداة للتعرف والفهم والتحليل والنقد، بل كفكرة نظرية عامة تنزع إلى الشمولية والإطلاق والثبات. وحينما ينزلق المفهوم إلى مرتبة كهذه يخرج عن منطق المعرفة العقلانية النسبية المرنة المتحولة وقد يخرج قضايا الثقافة والإنسان من سياق «التاريخ» إلى متاهة الزمن أو الوقت أو الدهر!. لهذا السبب تحديداً ما أن نقلب المنظور أو نعكسه حتى ندرك أن مفهوم «النسق» ذاته لا يعمل بكفاءة عالية وبطريقة منضبطة منتظمة إلا حينما ننزله من «مملكة النظرية» إلى «جمهورية المعرفة» ليصبح مواطناً عادياً مثله مثل غيره من المفاهيم. ولتقديم أدلة محددة على وجاهة ما نقول نورد ثلاثة مفاهيم أساسية في الخطاب المعرفي الحديث لا ننفي مفهوم «النسق الثقافي» بقدر ما تعين على تفهمه واستعماله بدقة أكثر وبكفاءة أعلى حسبما نري. فهناك، أولاً، مفهوم «الأفق المعرفي» الذي يعني أن في كل حقبة من تاريخ البشرية توجد مجموعة من الأفكار والقيم والحقائق المعرفية السائدة تتحدد في ضوئها معاني «العلم» و«مناهج البحث العلمي» و«معايير» الحكم على جدية هذا الخطاب الفردي أو الجماعي وذاك. المفهوم هنا تعريب شخصي لمفهوم «الإبستمي» عند باستلار وميشيل فوكو في السياق الفرنسي، ولمفهوم «البرادايم» - أو الجذر المعرفي - عند توماس كون في السياق الانجلو أمريكي - ترجمناه سابقاً إلى «الناظم المعرفي» ونعربه اليوم هكذا قياساً على مفهوم «الأفق الجمالي» الذي بلورته نظرية التلقي في مجال النقد الأدبي، وبخاصة كتابات ياوس أحد رواد هذا التوجه وأبرز ممثليه في ألمانيا. حينما نقول إن الأفق المعرفي الراهن يتجه بقوة لصالح إقرار حقوق الإنسان عموماً، فهذا يعني فيما يعنيه أن هذا المفهوم يعارض مفهوم النسق ويناقضه ويضغط عليه ليحد من تأثيراته في الوعي العام وفي الخطاب العارف على السواء. والحديث المتصل عن حقوق المواطن وحقوق كبار السن والأطفال والنساء والمرضى والسجناء والمثقفين.. الخ دليل ملموس على ضرورة تجاوز «كل» الأنساق الثقافية التقليدية التي لم تكن تعمل لصالح تحقيق مقولات نظرية وقانونية كهذه. نعم، لا شك أن هناك منظومات ثقافية ترفض هذه الحقوق وتقاوم نشر الوعي بها وتعيق العمل بها، لكنها في طريقها إلى التراجع والتهميش، لأن الأفق المعرفي السائد لم يعد يسلم بها، مثلها مثل تلك الأنساق التي كانت تبيح إلى عهد قريب بيع وشراء الناس وتحويلهم إلى «عبيد» يتصرف بهم المالك كما يرى ويريد. هنا تحديداً يتدخل المفهوم الثاني ليتحدد في ضوئه مفهوم النسق أكثر فأكثر ونعني به مفهوم «الإيديولوجيا» فهذا المفهوم له معان ودلالات مختلفة لكننا نستعمله هنا بالمعنى الأبسط والأوضح، أي خطاب فئة اجتماعية معينة تحاول تبرير حقها في السلطة لإدارة علاقات الدولة والمجتمع وفق تصورات محددة وبرامج محددة. هنا أيضاً قد يشتغل المفهوم لصالح أنساق ثقافية معينة وضد أخريات، وحتى في أكثر المجتمعات محافظة وتقليدية، فالإيديولوجيات السائدة اليوم في مجتمعاتنا يتجه بعضها لتغيير وتحسين شروط حياة المرأة وعملها في كل مستويات الحياة ومجالاتها، مع تماثل أو تشاكل النسق الذكوري الأبوي في هذه المجتمعات كما نعلم و«أم خالد» التي يحجب أسمها ويحجب وجهها وصوتها قد تكون أول من يعلم أن الخلل ليس في النسق العتيق الذي يظلمها بل هو في هؤلاء الرجال والنساء الذين يقررون تفعيل نسق واحد محدد وتعطيل غيره. فالدين الإسلامي لم يكن ليضعها في مرتبة أدنى من مرتبة الرجل، وبعض ثقافاتنا الشعبية التقليدية المحافظة لم تكن تعتبر اسم المرأة ووجهها وصوتها من العورات التي ينبغي سترها بالترغيب والاقناع أو بالترهيب كلاماً وعصا!. هناك إذاً خطاب أيديولوجي محدد يرفض اندماجنا في الأفق المعرفي الراهن، وهو وحده المسؤول الأول والأهم عما حدث ويحدث عندنا لأم زيد ولكريمة عبيد فانتبهي جيداً يا أم خالد. المفهوم الثالث يعيدنا إلى «النسق» ذاته إذ أن استعماله بصيغة المفرد، وبألف ولام العهد كما يقال، قد يخدعنا ويضلل أقوالنا وأفعالنا. فتاريخ المعرفة وواقع الثقافات البشرية كلها يفيدان بأن الأنساق الثقافية متنوعة مختلفة متعارضة متناقضة متغيرة متطورة وقابلة للحياة والموت لحسن الحظ ولله الحمد. نسق التسلط والظلم يقابله نسق التشارك والعدل، ونسق الجهل والتجهيل يقابله نسق المعرفة والتفكير والبحث، نسق العبودية يقابله نسق الحرية، ونسق الذكورة أو الفحولة يقابله نسق الأنوثة وهكذا.. ها نحن يا صديقي نصل، دونما قصد، إلى فكرة حوارية بامتياز، فالحوارية كما تعلم تسلم بحقيقة التعدد في الأشياء والكائنات والظواهر، وتدعو إلى مشروعية الاختلاف في الأفكار والأذواق والنظريات والمقاربات، إنها هي أيضاً مفهوم معرفي جديد لا يعمل ضد مفهوم النسق بقدر ما يعمل معه لتحقيق المزيد من أشكال عقلنة الخطابات المعرفية وأنسنة العلاقات الاجتماعية والله من وراء القصد.