تناولنا في الجزء الأول عرضاً لسياسة العمل بالوزارة وتعرضنا لمشكلة الفقر وفي هذا الجزء نعرض لمحور علاج المشكلة وأمثلة أخرى من سياسات العمل الاجتماعي في المجتمع السعودي في الوقت الراهن. محور علاج المشكلة 1 - عدم الإقرار بمبدأ المساعدة المباشرة العينية أو النقدية، فالعمل بها يعني تحول أفراد المجتمع إلى معتمدين على الآخرين وهذه عملية تراكمية سوف تساعد في زيادة معدل أعدادهم كل سنة إلى أن يصل الأمر إلى درجة لا يمكن الاستمرار، وبذلك نعود إلى نقطة البداية.. بل ان هذه الآلية سوف تخلق أجيالاً من المعتمدين على تلك المساعدات على اعتبار أنها هي الأساس، بل ان الأخطر من ذلك أننا بهذه الآلية سوف نقتل روح العزة والكرامة لدى أطفال تلك الأسر ونساهم في تنمية أعداد المعتمدين على تلك المساعدات. 2 - يجب أن تقوم العملية العلاجية من خلال مساعدة الأفراد لكي يساعدوا أنفسهم، أي أننا في حاجة للبدء في تطوير مفاهيم الإعداد والتدريب والتعليم لتأهيل القدرات المتاحة لأفراد تلك الأسر لكي يعتمدوا على أنفسهم، على أن تراعى ظروف الأسر الاجتماعية والثقافية. 3 - حصر قدرات الوزارة والجمعيات الخيرية والجهود الفردية لتحديد ما يمكن القيام به للتعامل مع المشكلة فالجميع يعمل في منظومة واحدة، فهل سوف نرى أعضاء من الجمعيات يحضرون اجتماعات الوزارة ويؤخذ رأيهم في خطط وسياسات الوزارة، أم سيبقى الوضع كما هو والمتمثل في أن الوزارة تأمر والجمعيات عليها السمع والطاعة؟. 4 - ربط جميع السياسات في جهة واحدة إشرافية تتمتع باستقلالية تامة بعيدة عن الروتين ولها خطة عمل واضحة تحت إشراف مباشر من وزارة الشؤون الاجتماعية. 5 - التوظيف الواعي لتلك الجهة والبعد عن الأسماء الكبيرة والرنانة، فنحن بحاجة إلى مختصين متفرغين تماماً بكل ما تعنيه الكلمة، حتى لو كانوا من خارج وزارة الشؤون الاجتماعية، فما نلاحظه هو أن الوزارة أصبحت توكل المناصب في الجمعيات لموظفيها فالأمل كبير ألا تقوم سياسة التوظيف على أساس التخلص من الموظف أو تكريمه. 6 - البعد عن الحملات الإعلامية غير الواقعية والتي لا تهدف إلا للظهور، بل إن الإعلام مطالب بتحمل مسؤولية كبيرة تتمثل في التوعية الرزينة لأفراد المجتمع لكي يتفاعلوا مع المشكلة بحس اجتماعي يظهرون من خلاله مبدأ التكافل الاجتماعي الذي دعت إليه الشريعة السمحة. ثانياً: المثال الثاني: اللجنة الوطنية لرعاية السجناء وأسرهم والمفرج عنهم.. تمت الموافقة على إنشاء لجنة وطنية لرعاية السجناء وأسرهم والمفرج عنهم بقرار من مجلس الوزراء رقم 2 وتاريخ 01/1/2241ه، وهذه اللجنة تحمل مسمى مختلفاً فهي ليست جمعية كسائر الجمعيات الخيرية لكن العمل المنوط بها والمهام التي تنوي القيام بها هي ذات صبغة اجتماعية مئة بالمئة، فعلى عاتقها تقع مسؤولية تنفيذ مجموعة من الأعمال التي هي في الواقع ضمن جوهر العمل الاجتماعي للجمعيات الخيرية وهنا يكمن اللبس، وسوف نتعرض للتسمية لاحقاً لكننا سوف نركز على الفلسفة التي تقوم عليها تلك اللجنة.. وهذا الأمر يمكن أن نقسمه إلى ما يلي: أولاً: تشكيل اللجنة. يترأس هذه اللجنة معالي وزير الشؤون الاجتماعية كما يتولى منصب النائب مدير عام السجون، وهنا نتساءل ماذا يحدث عندما تنتهي فترة الوزير أو نائبه، سوف يأتي وزير جديد ومدير عام للسجون يركز على الجانب الأمني فقط لإدارته، من الطبيعي أن تلك اللجنة سوف تعلق إن لم تكن معلقة بالفعل في الوقت الراهن. غير أن المشكلة أكبر فجميع أعضاء مجلس الإدارة ليس بينهم متخصص في الخدمة الاجتماعية (العمل الاجتماعي)، كما أن مجمل أعضائها تم تعيينهم، أي أن صبغة العمل الاجتماعي المبني على التطوع غير موجودة، فالتطوع لا رب له في هذا المجتمع. ثانياً: مسمى اللجنة. تعد التسمية الراهنة تسمية تسبب قصوراً في الفهم من قبل الكثير من أفراد المجتمع، فالكثير يعتقد أنها لجنة حكومية خاصة إذا ما عرفنا أن جميع الأعضاء تقريباً من الموظفين الحكوميين (باستثناء عضو من جمعية البر وآخر من القطاع الخاص يقابلهم 11 عضواً من مختلف الوزارات).. هذا الأمر سوف يؤثر على دعم اللجنة خاصة إذا ما عرفنا أن مصادر موارد اللجنة هي: - الإعانات والهبات والتبرعات والوصايا و الأوقاف. - الصدقات والزكوات. - إيرادات الأنشطة ذات المردود المادي. - أي مورد آخر توافق عليه اللجنة (منشورات اللجنة). من هنا نخلص إلى أن الدعم المالي غير محدد ويعتمد على نشاط اللجنة وتقبل المجتمع ودعمه لها. الجهة الإشرافية: من المتبع في المجتمع السعودي أن وزارة الشؤون الاجتماعية هي التي تشرف على العمل الاجتماعي، فكيف سيتم ذلك خاصة أن مسؤولي الوزارة هم مسؤولو اللجنة. اللجان الفرعية: حسب النظام فإن رئيس اللجنة هو الذي يعين أعضاء اللجان الفرعية وهي مربوطة نظامياً برئيس اللجنة، لكن ما هو تأثير السلطة الإدارية في المناطق الأخرى على تكوين تلك اللجان، فمن المعروف أن المؤسسات والجمعيات في المناطق تتبع سلطتها الإدارية، التي قد تتدخل في تشكيل تلك اللجان، ومن هنا قد يأتي من لا علاقة له بالعمل الاجتماعي، والغريب أن برنامج اللجان الفرعية لم ينص على أن تتضمن عضواً من القطاع الخاص، كما لم يحدد الآلية لاختيار ممثل الجمعيات الخيرية (هناك لجان تضم أعضاء كثراً، وهذا راجع لسياسة المناطق التي أسست بها تلك اللجان). فلسفة العمل: على الرغم من تواضع العمل باللجنة إلا أن طبيعة العمل المنجز لا ترقى إلى طبيعة تكوين اللجنة، فسياسة العمل في اللجنة تبدو غير علمية بمعنى أنها لا تهدف إلى إعادة تكيّف تلك الفئة، ومن نماذج العمل التي لا تحقق ذلك: أ - نظام المساعدات: على الرغم من الأسماء التي أنيط بها العمل باللجنة إلا أن طبيعة العمل المنجز لا ترقى إلى طبيعة تكوين اللجنة، فمعظم العمل يقوم على تلقي دعم من المجتمع بشكل نقدي أو مادي ثم توزيعه على المستحقين، ولم تبرز أي سمة للعمل الاجتماعي الحقيقي المبني على سياسة «ساعدوا الناس ليساعدوا أنفسهم». ب - تسديد الديون: تمثل فلسفة اللجنة على تسديد الديون، هذا الأسلوب يشجع الكثير على طلب الدين إذا عرف أن هناك من سوف يسدد الدين عنه.. فلو منحنا الفرصة لمن سوف يفرج عنهم العمل وتسديد القسط بصورة رمزية لأصّلنا مفهوم المسؤولية الفردية، فتكون الآلية على النحو التالى: - انتقال الدين المتعلق بالنزيل إلى اللجنة الوطنية، أي أن اللجنة تسدد الدين لصاحبه وتقوم بالإفراج عن النزيل وتطالبه بتسديد الدين بشكل رمزي وعلى فترة طويلة، المهم أن يفهم النزيل أنه المسؤول عن تسديد دينه، هذا الأمر سوف يساعد في توفير مبالغ يمكن أن تستثمر في مجال تدعيم وتنمية قدرات عملاء اللجنة. ثالثاً: مؤسسة رعاية الأيتام: قبل فترة قصيرة تمت ولادة مؤسسة خيّرة جديدة تُعنى بالأيتام في المجتمع السعودي، واستبشر المجتمع بهذه الولادة الجديدة على أنها لبنة من لبنات الخير في مجتمعنا، غير أن هناك الجمعية الخيرية لرعاية الأيتام بمنطقة الرياض كما أنه توجد جمعية في مكةالمكرمة لرعاية الأيتام بل إن خدمة رعاية الأيتام موجودة في كل جمعية من جمعيات البر المنتشرة في ربوع بلادنا.. فتلك الجمعيات الخيرية منتشرة في كل تجمع سكاني كبير.. ولعل العقبة الأولى في ظهور هذه الجمعية هي تسميتها، فلقد سببت تلك التسمية خلطاً كبيراً بين القائمين على كلا الجمعيتين (مؤسسة رعاية الأيتام، والجمعية الخيرية لرعاية الأيتام)، وعلى الرغم من هذه الجمعية سوف تقتصر في رعايتها على أيتام دور وزارة العمل والشؤون الاجتماعية فقط حسب ما فهمناه، وهم من الأيتام من ذوي الظروف الخاصة ممن تجاوزت أعمارهم 81 سنة غير أن الجمعية تمارس أنشطة مختلفة تدخل في نطاق الجمعية الخيرية لرعاية الأيتام. وقد ساهم ذلك في بروز مشكلة أخرى تتمثل في تمويل تلك المؤسسة بسبب التداخل مع نشاط الجمعيات الخيرية الأخرى المشابه لها من حيث النشاط. وكما هو واضح أنها سوف تمول عن طريق التبرعات، هذا الأمر سوف يؤثر بالطبع على ايرادات الجمعيات المتخصصة برعاية الأيتام. فتعدد الجمعيات المتخصصة في مكان واحد يعني أن ما كان يجمع من أموال الخير سوف يوزع على تلك الجمعيات مما يعني نقصاً في الموارد التي كانت في الأصل موجهة إليها. الأمر الذي سوف ينعكس على أدائها. كما أنه من الطبيعي أن أي مؤسسة سوف تنشأ تحتاج الى مقر رئيس وفروع ومديرين وموظفين وباحثين من كلا الجنسين تبعا لعدد المستفيدين من الخدمة فلو افترضنا أن عدد المستفيدين بين ألفين وأربعة آلاف يتيم موزعين على أربعة فروع في المدن الرئيسة فهذا يعني أننا بحاجة الى ما لا يقل عن خمسة الى ستة ملايين ريال لمجرد تقديم الخدمة ولو افترضنا أن هناك مقرا واحدا فسوف تصل التكلفة الى مليوني ريال. تلك التكلفة سوف تمول من خلال التبرعات التي كانت في الأصل موجهة للجمعية الخيرية. وبعد قرار إنشاء المؤسسة كما يبدو أن الوزارة لديها مشكلة في التعامل مع الأيتام وخاصة من يتخرجون من المؤسسة النموذجية وما يوجهونه من مشكلات أصبحت تقلق مسؤولي الوزارة، في نفس الوقت أن الوزارة ليست لديها الإمكانيات المادية لتقديم رعاية لاحقة لهم. هذا من جانب ومن جانب آخر نمو جمعيات الأيتام وتحقيقها لمعدلات كبيرة فيما يتعلق بحجم عدد الأسر التي يتم رعايتها وحجم التبرعات التي حصلت عليها، ربما ساهم في الميل للعمل الخيري. ولعل اللقاء الذي عقد في مدينة جدة وحضره معالي الدكتور علي النملة حيث ذكر أن هذه المؤسسة مخصصة لرعاية أيتام الوزارة فقط...! من هذا المنطلق سيكون لزاماً على الوزارة أن تنشئ مؤسسات رعاية المسنين وأخرى للمعاقين وغيرها للمتسولين ورابعة للأحداث؟ أي هل سوف تصبح وزارة الشؤون الاجتماعية جمعية خيرية للشؤون الاجتماعية؟ لعلنا نرى برامج العمل في المؤسسة بحيث تختلف عن نفس سياسة العمل الراهنة في الدور الاجتماعية القائمة على الروتين الممل وعلى العمل بسياسة المجموع فالتعامل يتم بالدور الاجتماعية مع الكل بشكل موحد على الرغم من الاختلافات الفردية هو النمط السائد، فإذا كان الأمر كذلك فما هو حال أيتام المؤسسة النموذجية (مجهولي الوالدين)، نعم إن كل يتيم منهم هو مجموعة من المشاكل المستعصية التي تحتاج الى جهود جبارة للمساعدة في اعادة التكيف. المثال الرابع: بناء مساكن للأسر الفقيرة في مختلف مناطق المجتمع السعودي. بدأت بعض الجمعيات الخيرية في بناء بيوت للأسر الفقيرة، وتبدو هذه القضية من الظاهر أنها من العوامل المساعدة في علاج مشكلة الفقر، ولكن أقول انظروا إلى تجربة الدول التي سبقتنا لعل ما يفيد من تلك التجارب هو أن تلك الأحياء سوف تفرز مجموعة من المعاناة: - مجمعات الفقراء، وسوف تصبح وصمة سوف يتصف بها من سوف يسكن بها، ولعل تسمية حي الدخل المحدود جعل الكل يخجل من ذكر ذلك الحي على الرغم من أن الأهالي هم من بنى مساكنهم، ولعل من الأمور غير المستحبة أن سائقي سيارات الأجرة يطلقون على ذلك الحي «سعودي مسكين» - عدم القدرة على تنفيذ وحدات سكنية لجميع المحتاجين. - الاتكالية على الآخرين، فماذا نتوقع أن يتصرف الفرد المحتاج، بالطبع سوف يعلق آماله على ذلك، اليس هذا أمرا غير مقبول. فلماذا يسعى الفرد اذا عرف أن هناك من يقدم له المساعدة أو يبني له بيتاً. - بعض الجمعيات تنمح البيت وبعضها تؤجره، وبغض النظر عن ذلك، كيف سوف تتصرف الجمعية في حالة رفض الساكن الخروج بعد نهاية العقد، وفي حالة استغلال المنزل بصور غير سليمة كيف ستكون ردة فعل الجمعية. لعل تلك الأمور لم يتم التخطيط لها في الأصل. كنا نتوقع أن تقوم الوزارة بعد الموافقة على تلك المشاريع بهذه الآلية أن يتم تنفيذ ذلك المشروع بطرق تختلف كثيرا عن السياسة المتبعة، وهذه الطرق: - منح أراض سكنية ومنح المحتاج قرضاً ليبني بيته تحت اشراف الجمعية في مناطق مختلفة (ألا يتم حصرهم في مجمع واحد)، فعلى سبيل المثال احدى تلك الجمعيات يتولى إدارتها أحد مسؤولي الوزارة (سابقا)، وهذا يعني أن الوزارة تبارك هذه السياسة وهذا ما يؤكد عدم وجود خطة عمل مجتمعية تعمل على مساعدة المحتاج ليساعد نفسه. - ان يتم تنفيذ المشروع ليؤجر الى قطاع أهلي أو حكومي ويصبح وقفاً يعود ريعه لأعمال الجمعية وبذلك يصبح موردا دائما. - الاستفادة من مؤسسات المجتمع كالصندوق العقاري. إن العمل الاجتماعي المؤسسي ووضوح الرؤية هما ما نفتقده في مجتمعنا، إنها مشكلتنا الأولى بل إنها أم المشاكل بداية من حضانة الطفل ونهاية برعاية العاجز.