أولاً يجب أن يكون الإنسان مستوعباً وبشكل جيد حقائق التطورات والمتغيرات في الحياة العملية العلمية البشرية ليس منذ عصر الثورة الصناعية في أوروبا التي لم تقدم قفزاً لافتاً بقدرات الإنسان بقدر ما سجلت تطوراً لما أحدثه البخار والكهرباء من تجديد وإمكانات ومعلومات.. لأن حياة الإنسان العلمية منذ بدايات القرن العشرين ونهايات القرن التاسع عشر تعني قفزاً مذهلاً نحو الأمام العلمي.. من ليس يستوعب ذلك يصعب عليه التفكير بما هو مطلوب من الإنسان المتخلف لكي يستطيع أن يتحرك.. بمعنى أننا لو مارسنا هذا التفكير قبل منجزات القرن العشرين لجاز لنا أن نقول بسهولة اعتبار التخلف مسألة استراحة مؤقتة يمكن تجاوز ركودها ببضعة أعوام.. الآن لا.. لأن الفوارق العلمية ذات العلاقة بالصناعة والتجارة والمواصلات والاتصالات والدواء ووسائل التقنية المختلفة بيننا وبين العالم المتقدم تعني عملياً سقوطنا في الخلف الحضاري مدداً طويلة لا يقلل من خطورتها أننا أغنياء نفطياً.. فماذا عنى لنا الغناء النفطي لخمسين سنة ماضية مادمنا لم نملك بعد المجاراة العلمية في الزمالة الحضارية.. لا شيء.. المقارنة لا تكون بالثروة ولا أيضاً باختيار نماذج تخلف في أفريقيا وآسيا لنقول إننا أحسن منهم ثم ندعي أنه لا يجوز أن تمرر علينا تهمة الركود.. بدايات القرن العشرين جعلت الإنسان يقطع مسافات الطريق بالطيران السريع ثم يرود الفضاء.. تجعلك تدير زراً صغيراً فتستمع إلى خطاب رئيس كندي أو فنزويلي وأنت في جنوب أفريقيا أو أندونيسيا.. تدير زراً لكي تتقد نار بدون حطب تنجز ما تريد.. وفيما هو أقل من حجم الكف تفتح زراً فتتحدث فوراً مع ابنك في السويد أو صديقك في البرازيل وأنت في كهف جبل بالصحراء الكبرى.. أصبحت هناك تقنيات طب وصناعة من غزو الفضاء ومن أعماق المحيطات وأنت مجرد عميل سوق تجاري.. إذاً يا سيدي لقد أصبح للزمن خطورة.. في الماضي كانت هناك خطورة الجوع والمرض أما الآن فقد ضاعف الزمن من خطورة الجهل.. الجهل الذي لم يعد يعني عدم معرفة القراءة والكتابة أو حيازة عدد من كتب التراث، ولكنه عدم المعرفة التامة بواقع العالم العلمي والثقافي المتقدم.. ألست ترى أمام هذه الحقيقة أننا يجب ألا نقبل التفكير مثل آخرين بطبيعة رؤيتهم المستسلمة والمتهاونة مع كل ظروف الركود.. لقد أصبح التعليم العلمي.. أي العلوم المادية.. حاجة قصوى للغاية وهذا لن يعني أن تلغى غيرها.. وأن تعليم المرأة وفاعلية وجودها الوظيفي مهنياً وعلمياً ضرورة مطلوبة وأن الإنسان لم يعد مجرد غرائز يقضي كل وقته في محاربة تسلطها لأنه لو جعل لفكره بعضاً من أهميات مكوناته الأخرى لا يستطيع أن يتجاوز نفوذ كل تسلط غريزي يوجه انحرافاته.. إن حقوق الإنسان لم تعد تتوقف عند غذائه وسكنه ومرتبه الشهري.. ولكنها أصبحت تلامس نهايات مصيره.. في موقعه بين الآخرين من مستوطني التفوق الحضاري.