تبنى الدول والأمم وفق خطط موغلة الجذور في المستقبل، ويتأثر مستقبل الأمم إيجاباً أو سلباً بنوعية هذه الخطط ونوعية التطبيق، وإذا تعثر أي من هذين دفعت الأمم أثماناً باهظة وموجعة من مستقبلها واستقرارها. الانضمام لمنظمة التجارة الدولية قدر لا مفر منه في عالم اليوم، فمجموع الدول المنطوية تحت هذه المنظمة حتى نهاية عام 2004م (148) دولة وتشكل (79٪) من دول العالم وتستحوذ بين (89٪) إلى (97٪) من الحركة التجارية الدولية بمختلف أنواعها، فهل تطيق أي دولة ألا تنضم إلى هذا التجمع المخيف! وهل تطيق أي أمة أن تنضم لذات الانضمام، أي بدون تأهيل، يحافظ على القوة المحركة للاقتصاد ويعزز الثقة في البيئة المحلية للاستثمار، كما أنه من البديهي القول ان أي فردين يريدان التعامل والمشاركة في أي أمر لابد نأمل منهما من التخلي عن بعض ما يتمسك به ليسهل عملية التلاقي في منطقة وسطى تكفل للاثنين معاً تعاملاً عادلاً، ومثل ذلك الانضمام لمنظمة التجارة العالمية التي تتطلب تقديم تنازلات ومزيد من التنازلات من قبل الدول التي تأخر انضمامها. وتشير أدبيات منتدى الرياض الاقتصادي إلى أن الانضمام لمنظمة التجارة العالمية سيحقق الأمور التالية: ٭ إلغاء الإجراءات التميزية التي تضعها بعض الدول على منتجاتنا وخاصة تلك الإجراءات ذات الدوافع السياسية وسيتيح لنا الحصول على المعاملة المتساوية مع بقية الأعضاء المنظمة. ٭ التخلص من الاتفاقات الثنائية بحين تحصل الدولة العضو على الحقوق والمنافع التي تكفلها المنظمة لجميع الأعضاء. ٭ حصول المنتجات السعودية على فرصة الوصول إلى أسواق البلدان الأعضاء. ٭ مبدأ «المعاملة الوطنية» سيجعل المنتجات السعودية تحظى بنفس المعاملة التي يؤخرها أعضاء المنظمة لمنتجاتهم المحلية. ٭ سيتم تحرير المنتجات السعودية مما يسمى «رسوم الإغراق أو الرسوم المضادة» لأن قوانين المنظمة هي المعيار في هذا الجانب. ٭ الانضمام لمنظمة التجارة العالمية ربما يكون منهجاً وفلسفة للإصلاح الاقتصادي الذي يأخذ في الحسبان المنافسة الدولية ويعمل على جذب الاستثمار الأجنبي، وتفعيل القيمة المضافة للاقتصاد الوطني ومنتجاتنا وخدماتنا، والتفكير جيداً في المزاوجة بين الجودة والسعر، هذا كله يعني أن النظام الاقتصادي المبني على تلك الأسس سيكون نظاماً اقتصادياً ذا شفافية عالية مندمجاً مع النظام العالمي، وبالتالي يملك مقومات تعزيز النمو المستدامة. ٭ سيتيح الانضمام المشاركة في عمليات صنع القرار وبالتالي تمكننا من توجيه القرار الاقتصادي بما يخدم الاقتصادي الوطني. كل هذه الفوائد والمميزات اليت قد تبدو مغرية لابد من النظر إليها في ظل الواقع الذي تعيشه المملكة والذي هو نتيجة تراكمات من التخطيط والتنفيذ الاستراتيجية والآني، هذا الواقع يحفل بكثير من المميزات ويحفل أيضاً بكثير من المعوقات. فالمملكة تحتل المركز الأول بين دول العالم في الأمور التالية: في إنتاج النفط الخام، وفي تصديره، وفي استخدام محطات تحلية المياه المالحة لإنتاج المياه العذبة، وتحتل المركز الثاني بين الدول في ارتفاع نسبة عدد السكان لما هم دون السادسة عشرة، والخامس بين أبطأ الدول في النمو الاقتصادي، والثامن بين أكثر الدول المنتجة لثاني أكسيد الكربون الملوث بمعدل 13,4 طن للفرد، والتاسع في إنتاج الغاز الطبيعي، والحادي عشر في أقل الدول في معدل التضخم، والسادس عشر بين أقل الدول استخداماً للعمالة الوطنية، والسابع عشر بين أعلى الدول نسبة في نمو عدد السكان، والتاسع عشر بين أكبر الدول في تقديم الإعانات للدول الضعيفة، والعشرون بين أكثر الدول استخداماً للطاقة بالنسبة لعدد السكان، والثاني والعشرون بين أكثر الدول المنتجة صناعياً، والخامس والعشرون بين أكبر الدول في الصادرات السلعية، والتاسع والعشرون بين أكبر الدول الاقتصادية في الناتج المحلي الإجمالي، والثلاثون بين أكبر القوى الشرائية في دول العالم، والثالث والثلاثون بين أكثر الدول المنتجة للخدمات، والسادس والثلاثون بين أعلى الدول في قيمة الأسهم المتداولة بين الشركات المساهمة، والثالث والأربعون بين أفضل الدول في مناخ الاستثمار وتشجيع القطاع الخاص، والثالث والخمسون بين أقل الدول ترسيخاً لمبدأ حرية الأسواق والنفاذ إليها، والخامس والستون بين الدول في تطوير الموارد البشرية. كما ان المملكة تحتل - بالإضافة إلى ذلك - مزايا نسبية ربما تساعدها على التنافس الدولي إذا أمكن توظيفيها فالمملكة - على سبيل المثال - مهبط الوحي وقبلة (25٪) من سكان العالم، وبالتالي تتبوأ المركز المناسب لقيام السوق الإسلامية المشتركة، وامكانية استقطاب علماء المسلمين في كافة المجالات ومن جميع الدول للعمل فيها. وبما ان المملكة تمتلك (30٪) من المخزون النفطي العالمي، وتحتل المركز الأول في إنتاج النفط وتصدير الطاقة فيمكن توظيف ذلك للحصول على الريادة في هذه الصناعة والتخصص في إنشاء معاهد أبحاث الطاقة النظرية والعلمية في كافة مجالاتها، وبناء مصانع إنتاج أجهزة حفر الآبار وتكرير النفط وقطع غيارها، وإنشاء مراكز التدريب الفني والتعليم الفني في حقل النفط ومشتقاته.. علاوة على تعزيز قدرة المملكة على تقويم واختيار الشركات الكبرى العاملة في نفس المجال للتعاون معها في ضمان حدود التكامل الصناعي الأفقي والعمودي معاً بما يؤدي إلى تضافر جهود الشركات الكبرى في تقديم خدمات متكاملة في إنتاج النفط والغاز وتكريرهما، وتطوير الصناعات البتروكيماوية، وتوطين التقنية، وتسويق المنتجات في الأسواق العالمية.. كما أن تلك الميزة النسبية ستعزز ر يادة المملكة في إقامة المشاريع الصناعية التي تعتمد مقومات تصنيع منتجاتها على الطاقة للاستفادة من هذه الميزة النسبية مثل إنتاج الألمنيوم والحديد والزجاج والمعادن الفلزية والصناعات الحربية. المملكة تنفرد أيضاً بموقعها الجغرافي المميز حيث يحدها شرقاً دول المجموعة الآسيوية التي تتمتع بالعمالة الفنية المدربة.. ويحدها غرباً دول الاتحاد الأوروبي التي تتمتع بالتقنية والخبرة والمعرفة، وبالتالي تستطيع المملكة استغلال موقعها المميز في تحقيق مكاسب عديدة منها: ٭ استخدام التقنية الغربية والعمالة الشرقية لتصنيع المنتجات اللازمة لشعوب المشرق والمغرب معاً وتسويقها في العالم. ٭ استغلال خطوط الملاحة بين المشرق والمغرب في إقامة المناطق الحرة. ٭ إنشاء المناطق الاقتصادية في المملكة على غرار المدن الصناعية. ٭ تطوير مرافق محطات القوى الكهربائية في المملكة عن طريق استخدام النفط والغاز لتوليد الطاقة الكهربائية وتصديرها لدول المشرق والمغرب عبر خطوط الكهرباء ذات الجهد العالي. ٭ بناء مرافق متقدمة لخطوط السكك الحديدية لنقل الركاب والبضائع والمنتجات من وإلى مختلف مناطق المملكة وخارجها. وبالإضافة إلى ذلك تحتل المملكة المركز الثلاثين بين دول العالم من حيث القوة الشرائية كما تحتل المركز التاسع والعشرين من حيث قيمة الناتج المحلي الإجمالي وبالتالي تستطيع المملكة تعظيم مكاسبها عن طريق تخصيص منشآتها الحكومية، واسترجاع رؤوس الأموال المهاجرة، وتوفير فرص العمل للمواطنين وتدريبهم على رأس العمل، وبناء قاعدة اقتصادية محلية ضخمة وراسخة. رغم تلك الإيجابيات النسبية والواعدة، إلا أننا في المقابل نجد أن المملكة تعاني من نقاط ضعف تحول دون تحقيق تلك الطموحات والآمال، وقد تضيع الفرصة التاريخية السانحة ولذا لابد من تحليل دقيق لواقع المملكة تحديد نقاط الضعف ولابد من مواجهتها والتصدي لها ومن هذه النقاط. أولاً: عدم وجود خطة أو خطط استراتيجية طويلة المدى تأخذ في الحسبان النظرة المستقبلية للمملكة وتهتم بالمقومات والمزايا النسبية التي تتحلى بها آخذة في الحسبان التطورات العالمية الخارجية وتأثيرها على جميع القطاعات السياسية والاقتصادية والعلمية والمعلوماتية. ثانياً: تغلب هاجس فتح الأسواق الداخلية على قرارات الأجهزة القطاعية المختلفة في المملكة مما أدى ذلك إلى تأخر المملكة في تطوير أنظمتها الداخلية وتقهقر مردودها الاقتصادي ومضاعفة الأعباء المتراكمة على المملكة. ثالثاً: اعتماد المملكة على مصدر أساس واحد للدخل وهو النفط مما كان له أكبر الأثر في تراجع ميزان المدفوعات وزيادة أعباء الديون الداخلية لتصل إلى (110٪) من قيمة الناتج المحلي الإجمالي - علماً بأن جميع الخطط الخمسية أكدت في هدفها الأول على ضرورة تخفيف الاعتماد على النفط كسلعة رئيسية للدخل الوطني. رابعاً: غياب الهدف الأساسي لسياسة التعليم والتدريب والبحث والتطوير وضعف الاستفادة من الموارد البشرية وانعدام استراتيجية توطين المعرفة مما أدى إلى أن تكون المملكة دولة وسيطة لنقل التقنية من الدول المتقدمة - عن طريق استيراد معداتها - إلى الدول النامية - عن طريق استخدام مواطنيها للعمل في المملكة - إضافة إلى تأخر وضع نظام وطني لتأهيل المجتمعات النائية في القرى والأرياف. خامساً: انحسار قوة النفط التفاوضية وعدم توظيفها في أوائل الثمانينيات لتطوير احتياجات المملكة على المدى البعيد وان المملكة كانت تتربع على عرش إنتاج وتصدير الطاقة عالمياً، إلا أنها لا زالت في حاجة ماسة لوضع استراتيجية حكيمة للاستفادة من مزايا هذه القوة النفطية التفاوضية - حتى لا تنقلب إلى نقطة ضعف - وخاصة ان المملكة لا زالت ضمن الدول التي تستورد الغذاء والدواء والخدمات. سادساً: التأخر في اتخاذ القرار بسبب اختلاف وجهات نظر المسؤولين في القطاعات الأساسية طبقاً للمبادرات الشخصية الخاصة دون اللجوء إلى الأرقام والحقائق ودراسة المكاسب والتكاليف بطرق علمية لتحليل الحساسية وتوضيح مراكز القوة والضعف واستكشاف الفرص والأخطار وتقديم البدائل لمتخذي القرار. سابعاً: تراجع مستوى التعليم وازدحام الجامعات بالطلبة والطالبات - بسبب هبوط مستوى التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي - إضافة إلى عدم وجود استراتيجية واضحة للتعليم الفني والتدريب المهني، الذي يفترض أن يكون الهدف الأساسي في المملكة ضمن مساعديها نحو توطين العمالة. ثامناً: ارتفاع نسبة النمو السكاني بالمملكة وتزامنه مع انخفاض مستوى دخل الفرد في العقدين السابقين مما كان له أكبر الأثر في ترهل المقومات الاجتماعية وتحول القطاعات الإنتاجية إلى منافذ استهلاكية بحتة. رغم كل ما ذكر وسيذكر عن جوانب القوة وجوانب الضعف وتوصيف الواقع الذي لا يرقى للطموحات والامكانيات ورغم ما يراه بعض من ضرورة التثبت من الجاهزية قبل الانضمام، إلا أنه لا أحد يستطيع أن يقول ان المملكة جاهزة أم لا، لكن هناك حقائق لابد من أخذها في الحسبان عند الإجابة عن هذا السؤال وهي: أولاً: ان المملكة بنظامها الاقتصادي الحر تكاد تكون داخل المنظمة منذ زمن طويل، وان الانضمام لا يعني سوى إضافة بعض الأنظمة وحذف أخرى. ثانياً: ان الانضمام اليوم هو أفضل بالتأكيد من الانضمام غداً، وان الانضمام اليوم ربما كان أفضل من الانضمام بالأمس لأمور نسبية وظفتها المملكة لصالحها أثناء التفاوض، وفي الأخير أحسنت بلادنا في نفسها وفي مستقبلها عندما بادرت وأنهت إجراءات الانضمام، ولم تلتفت لتلك الدعوات المثبطة التي لا تملك سوى إثارة الهلع والشكوى.