لقد كانت السمة الأساسية للمتغيرات الاقتصادية العالمية في العقد الأخير من القرن العشرين حتى الآن، هي هبوب رياح العولمة القوية على جميع أنحاء العالم، والعولمة في جوهرها الاقتصادي هي فتح الأسواق أمام حرية التجارة، والاستثمار، وانتقال رؤوس الأموال، وتراجع تدخل الدولة في الاقتصاد الوطني، مع تقليص الإنفاق الحكومي على الخدمات، وتزايد الأخذ باللامركزية. وتنعكس سياسات العولمة على فلسفة تقديم الخدمات الصحية بشكل عام، والخدمات الصحية المقدمة من الدولة بشكل خاص، في صورة الدعوة لرفع يد الدولة عن دورها في تحمل أعباء الخدمات الصحية عن طريق خصخصة قطاع الصحة. والخصخصة في أبسط تعريف لها هي: "رسم السياسات التي تحفز على تحويل القطاع العام إلى قطاع خاص من أجل إنتاج وتوفير مختلف السلع والخدمات". ويرى بعضهم أن أسلوب خصخصة الخدمات الصحية يفرق كثيراً في تقديم وتوفير خدمات صحية جيدة من الناحية الإدارية، وتطبيق مبدأ الثواب والعقاب، ويُخلص الموظفين والإداريين من حالة التواكل والإهمال والاستخفاف بآلام وأوجاع المرضى، ولكن من عيوب نظام الخصخصة هو إلغاء الجزء الإنساني في العلاقة بين الطبيب والهيئة التمريضية من جانب، والمريض من ناحية أخرى، الذي يتمثل في التعامل مع المريض كإنسان يحتاج إلى رعاية وعناية حسب حالته المرضية، وذلك لأن القطاع الخاص يتعامل مع المريض كسلعة تدر عليه أرباحاً ومكاسب مادية يستطيع من خلالها تغطية تكاليف المستشفى. وتعد تجربة وزارة الصحة في تشغيل المستشفيات الحكومية من التجارب الفريدة التي شهدتها النهضة الصحية الشاملة في المملكة العربية السعودية خلال الخمس والعشرين السنة الماضية، وينظر بعضهم إلى تلك التجربة والدروس المستفادة منها على أساس أنها اللبنة الأولى في سياسة الخصخصة. وكان عام 2007م عاماً لافتاً في مسيرة وزارة الصحة ممثلة بالإدارة العامة لنظام العقود والتشغيل، ففي ذلك التاريخ بدأ التحول إلى نظام التشغيل الذاتي، وبحسب نظام التشغيل الذاتي فإن المستشفى يدرس احتياجاته من القوى العاملة سواء الفنية، أو الإدارية، أو المستلزمات، وذلك وفق معايير عالمية تخضع عادة للسعة السريرية للمستشفى، ويهدف تطبيق برنامج التشغيل إلى استقطاب الكفاءات الطبية والفنية المتخصصة، كما إن إدارة المستشفى بنظام التشغيل الذاتي تتميز من التشغيل بنظام عقود التشغيل السابقة، الذي كانت تتولاه شركات خاصة، وأن الاختلاف بين الأمرين يكمن في أن الشركة المشغلة لديها مهمة أساسية وهي الربح في نهاية السنة المالية، ما يجعلها تتعاقد على توفير كل ما من شأنه أن يقلل التكلفة عليها، ولا يؤثر في ربحيتها، أما الإدارة بنظام التشغيل الذاتي هدفها استثمار الإمكانات المتاحة للوصول بالخدمة إلى أفضل حالاتها، وهو على النقيض من التعاقد مع شركات التشغيل الخاصة لإدارة المستشفيات. ومن مزايا نظام التشغيل الذاتي أيضاً أنه يعطي إدارة المستشفى مرونة في التعامل مع الأزمات التي تحدث بشكل اعتيادي وتخل بأداء العمل، كإجازات الأطباء، ونظام الدعم المؤقت خصوصاً في مجال التخصصات النادرة. ويرجع السبب في التحول إلى نظام التشغيل الذاتي أن الشركات والمؤسسات التي كانت تتعاقد معها وزارة الصحة لتشغيل مستشفياتها ما هي إلا شركات تشغيل وصيانة، حيث كانت تستقدم عمال النظافة والفنيين وعُهد إليها أن تتولى تشغيل المستشفيات، فراحت تحت رغبة الربح والتوفير للتعاقد مع أقل الأطباء رواتب وأضعفهم خبرة، وكذا الفنيين ليقدموا الخدمات الصحية والعلاجية للمواطن، وما بين إهدار المليارات، وتراجع الخدمات العلاجية المشوبة بالأخطاء الطبية والعجز الحاد في الآسرة وطول فترات انتظار مرضى العيادات الخارجية، وليس أدل على نجاح تجربة التشغيل الذاتي من أن بعض المستشفيات الحكومية قد حصلت على جائزة ال (JCI) الأمريكية وهي أعلى شهادة تصنيف طبي في العالم لتقييم المستشفيات.