الموهبة شرط أولي لإبداع الشعر.. لكنها ليست كل شيء، هناك عدة مؤثرات تتحكم في مدى روعة الصور الشاعرية، منها البيئة، والتجارب، وسعة الخيال أو ضيقه النسبي، فلا يوجد شعر من دون خيال، ولكن الأخير يبلغ مداه حين يحيط الشاعر بآخر أبعاد بيئته المكانية والزمانية، بما فيها الثقافة التي ورثها من تلك البيئة أو تلقاها من الدواوين السابقة والموروث الأدبي ليمزج الشاعر الموهوب ذلك كله ويهضمه ويطبعه بطابعه الخاص، بعد أن يمر بمرحلة التقليد في البدايات. إن بيئة العرب الأوائل كانت فقيرة بالجمال الطبيعي - عدا المرأة - ولكن عباقرتهم استطاعوا تجسيد الجمال المطلوب في مثل تلك البيئة مثل السحاب والمطر والربيع إذا حل ربيع الصحراء، وإذا كان الموضوع ليس بأهمية الموهبة، فإن له دوراً كبيراً في إذكاء الموهبة وإضفاء الجمال والتنوع على الصور الشاعرية والإثراء، فغزل عمر بن أبي ربيعة يختلف عن بشار، ووصف ابن الرومي يختلف عن وصف ابن المعتز، فمع أن الأول أكثر دقة إلا أن الثاني أكثر رفاهية، الأول يصف الخباز والأحدب والثاني يصف القصور وآنية الذهب والبلور. إن حياة الشاعر وتجاربه ومحيطه لها أثر بالغ في توجيه موهبته.. وهي تنعكس على ألفاظه ومعانيه، صوره وخيالاته، فالإنسان - حتى وإن كان شاعراً - يظل ابن بيئته وظروفه وتجاربه وما مرّ به. غزل ابن زيدون في ولادة بنت المستكفي يختلف عن غزل قيس بن الملوح في ليلاه، الأول عاش في حدائق الأندلس وطبيعتها الساحرة والثاني عاش في بادية العرب وطبيعتها المقفرة. وكلنا نعرف قصة علي بن الجهم حين أقبل من الصحراء بدوياً خالصاً فمدح الخليفة قائلاً بكل حماس: أنت كالكلب في الوفاء وكالتيس في قراع الخطوب فهم به الحرس لكن الخليفة كان واسع الأفق يدرك أثر البيئة في الإنسان فأشار لهم أن يتركوه وأعطاه قليلاً من المال وصرفه وقال: - هذا جاء من البادية يمدح بما يعرف، دعوه حتى يتحضر ويرق!.. فلم يكد يعيش في نعيم بغداد قليلاً حتى تغير ورق ولان وقال: عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري وشاعرنا الشعبي الشهير لويحان كان له غزل - قبل أن يزور مصر - فيه رائحة الصحراء التي يعيشها منه قوله - رحمه الله: البارحة ما هملج الطرف بنعاس ما فاض من خجم عيوني تخيله لا باس يا عيني على السعر لا باس على وليف فات ما لقا بديله عنا قطع شوف المواصل له ارماس ولا في يدي من نابي الأرداف حيله فيما مضى يأخذ جوابي من الراس واليوم لاعاني ونا ما عنيله العشرة الل ما توثق على ساس تطيح لو صارت حصون طويله يا ونتي منها المعاليق يبَّاس صبري قفى ما باقي إلا قليله من يتبع المقفي مرده بالافلاس مثل الذي يالقيظ يدفق صميله وحين زار مصر رق شعره نسبياً لأن مصر كانت وقتها في قمة الحضارة بالنسبة إلينا، فقال ذاكراً الزهور: إن مت في شارع فؤاذ ادفنوني ياطا على قبري بنات مزايين ما عاد أكذب عقب شافت عيوني بنا من نسل البوش والسلاطين شفت الزهور بنا عمات الغصون ما دونها حارس على العسر واللين أحدٍ يدوّر للبضعة زبون واحد تفسح قاضبين القوانين يا عاذل راعي الهوى ما تمون تنقد وعنك الناس ما هم بدارين الناس في سحّات ما يسمعون الوقت عدلٍ ومثله الناس عدلين يا أهل العقول الطيبة سامحون كل برايه يحسب العشر عشرين وحين زار - رحمه الله - اسبانيا قال: باسبانيا يا ما نظرنا من الزين وين أنت يا للي توعجه شبابه يسجع لها طير الهوى بالجناحين ويشوف وشي عندهم ما هقا به أوُقَفْ على الشارع ضحي يوم الاثنين تشوف زين ما يعدد حسابه اشكال واجناس كما تسرد العين هاك الخشوف اللي طوال رقابه سيرتهم حلوه وهم مثل حلوين لا تسمع الشحذه ولا به نهاية قلته وانا مقفى مع اللي مقفين مير البلا من حب شي حكى به إن هناك رابطة وثيقة بين (الإنسان) و(الفنان) الشاعر فنان بلا شك، ولكن ما مر به من ظروف كإنسان له تأثير عميق على شعره وصوره الفنية ومفرداته وأخيلته وهو - كغيره - شخصية منامية، متغيرة، حسب تراكم التجارب والمرئيات والأسفار واختلاف البيئات، تظل موهبته الأصيلة محيطة بالصورة وتختلف التفاصيل من مرحلة لمرحلة، ومن تجربة لتجربة. وحين يقول قيس بن ذريح في لبنى: ولما بدا منها الفراق كما بدا بظهر الصف الصلد الشقوق الشوائع تمنيت أن تلقى لبيناك والمنى معاصيك وحينا تطاوع وما من حبيب وامقٍ لحبيبه ولا ذي هوى إلا له الدهر فاجع وطار غراب البين وانشقت العصا ببين كما شق الأديم الصوانع ألا يا غراب البين قد طرت بالذي أحاذر من لبنى فهل أنت واقع؟ فإنه - على صدقه في حبه - ابن بيئته في صوره وأخيلته، لا شيء يتي من فراغ، فإن الإطار الصحراوي الذي يحيط موهبة قيس يختلف عن الإطار الأندلسي المضمخ بالعبير والزهور والمحيط بالوزير أبو عبدالله بن الخطيب إذ يقول: جادك الغيث إذا الغيث هما يا زمان الوصل في الأندلس لم يكن وصلك إلا حلما في الكرى أو خلسة المختلس أي شيء لأمرىء قد خلصا فيكون الروض قد مكن فيه تنهب الأزهار فيه الفرصا أمنت من مكره ما تتقيه فإذا الماء يناجي والحصا وخلا كل خليل بأخيه «إئ يقود الدهر أشتات المنى ينقل الخطو على ما يرسم زمراً بين فرادى وثنا مثل ما يدعو الوفود الموسم والحيا قد جلل الروض سنا فسنا الأزهار فيه يبسم» لويحان