مواطن ثلاثيني هارب متهم بقتل شقيقته -28 عاماً- بعد إطلاق عدة طلقات نارية عليها من مسدس، شاب يقتل أخته بخمس رصاصات، ابن يقتل والده في حريق، مدمن عاق يحبس والدته في غرفة من أجل سرقة مجوهراتها حتى الموت، مشاهد مؤلمة لجرائم قتل أسرية تنقلها الصحف من وقت إلى آخر، والتي تعبر عن واقع خطير يجب مناقشته والوقوف على أسبابه. الأب والأم عليهما مسؤولية تقوية العلاقات بين أبنائهما وخلق لغة حوار إيجابية وتُعد الأسرة الخلية الصغيرة في تكوين المجتمع الكبير الذي تتوسع فيه تلك الخلايا العائلية، وعندما نعود بذاكرتنا قليلاً إلى الوراء نسترجع مواقف الأسرة التى كانت تنام على خلاف حدث أثناء تناول وجبة العشاء بين أخوين أو أكثر، لتجمعهم وجبة الإفطار في اليوم التالي وهم مبتسمون ويتبادلون الأحاديث الودية ويضحكون على ما حدث بينهم ليلة البارحة، أمّا اليوم فأصبحت الصورة قاتمة في واقع بعض الأسر، فالخلاف البسيط يتحول إلى شرارة انتقام، ولغة الحوار لم تعد حاضرة في المشهد، فالجميع كبار ولا تفاهم بعد اليوم إلاّ أمام أبواب المحكمة، أو عندما يحمل أحدهم لقب القاتل والآخر القتيل، ليبرز السؤال: ما الأسباب التى جعلت الأسرة تعيش فوق صفيح ساخن من المشاكل لتجعلها تفقد أحد أبنائها قاتلاً والآخر مقتولاً، لتعيش ويلات هذا الجرم وهي حائرة مع من تقف؟. ويأتي حدوث الجرائم الأسرية بسبب تباعد أفرادها، وكذلك ضعف الروابط، والتى بدايتها تكون من تباعد الوالدين وضعف لغة الحوار، حيث لم يعد هناك أوقات تتشارك فيها في النشاطات، وأصبح كل واحد منشغلا باهتماماته، أو مع وسائل التكنولوجيا الحديثة، مما أثّر على العلاقات الواقعية وجعل منها باردة، ودون إحساس بالآخر، الأمر الذي يتطلب أن يدرك الوالدان أهمية تقوية العلاقات بينهم وأبنائهما، وإيجاد لغة حوار إيجابية، يستطيع من خلالها الجميع إبداء وجهة نظرهم ودون مشاكل تُذكر. د. جبرين الجبرين تباعد وتنافر وقال د. جبرين علي الجبرين أستاذ مشارك بقسم الدراسات الاجتماعية بجامعة الملك سعود-: إن الخلافات الأسرية موجودة منذ القدم وأول جريمة حدثت في التاريخ كانت بين ابني آدم وهي خلاف أسري بلاشك، لذلك فأنا لست من المندفعين نحو إدانة الأجيال الجديدة بأنهم أصحاب المشاكل وتبرئة الأجيال القديمة، وعندما نتحدث عن القتل في الخلافات الأسرية فنحن نتحدث عن حالات نادرة ومحدودة، مضيفاً أن التحولات في نوعية الخلافات الأسرية وطريقة التعامل معها فيمكن القول ان الأسرة اليوم لم تعد كما كانت في الماضي، فهناك تغير في طريقة تعامل أفراد الأسرة بينهم، وتغير في طريقة حسم الخلافات، وتغير في العلاقات الأسرية بشكل عام، مبيناً أن العلاقات الأسرية المعاصرة تغيرت بتغير الأدوار ولم تعد علاقة بسيطة تلقائية، بل أصبحت علاقة تتجه نحو الرسمية والمجاملة، خاصةً بين الأخوة والأخوات بشكل أكبر، وبهذا فهي لا تصمد أمام أول خلاف بسيط، فتجده يؤدي الى تباعد وتنافر بين أفراد الأسرة، إضافةً إلى اتجاه أفراد المجتمع نحو الفردية التي تقود الى الأنانية وعدم الإيثار، وهذا ملاحظ لدى البعض، وهذا يفسر درجة العنف في حسم الخلافات بين أفراد الأسرة، مشيراً إلى أنه في الناحية الأخرى نجد أفراد أسرة متكاتفين ويؤثرون على أنفسهم، كما أن حالات التبرع بالأعضاء لفرد آخر في الأسرة أكثر بكثير من حالات القتل. ضعف الروابط بين الأبناء يقود إلى جريمة القتل أسر نواتية وأوضح د. الجبرين أن التغيرات المعاصرة والسريعة التي يمر بها المجتمع نتج عنها تحولات في قيم الأسرة واتجاهاتها، فنجد الأسرة النواتية حلّت محل الأسرة الممتدة، وهذا بدوره أدى الى تقلص دور الجد والجدة اللذين تجدهما يعانيان من العزلة الاجتماعية وضعف التواصل مع الأبناء والأحفاد الذين يفضلون العيش بمفردهم، وهذا يترتب عليه تغير واضح في العلاقات بين أفراد الأسرة بشكل عام والميل نحو العزلة والفردية، بل وعدم السماح للأخوة والوالدين بالتدخل في شؤون الأسرة واعتباره تطفلا وتعديا على الخصوصية بعدما كان ينظر إليه على أنه اهتمام مطلوب يقابل بالترحيب والقبول في الماضي. علاقات هشة وأكدت هيفاء الصفوق -أخصائية اجتماعية- على أن الأسرة هي ملجأ لكل أبنائها، وهي الأساس التى تغذي الصغار والكبار، تعلمهم وتهذبهم، بل هي الاستقرار النفسي والمعنوي والأمان الذي من خلاله يتنفس أبناؤها، مضيفةً أنه في السابق كانت الأسرة ممتدة من الجد والجدة، الأب والأم والأبناء كلهم يعيشون في منزل واحد، والحياة كانت أبسط، وكل منهم يقوم بالتربية، لا تنفرد فقط على الأب أو الأم، بل الجد والجدة لهما السلطة والكلمة، وكانت القلوب مجتمعة وكلمة الجماعة تجمعهم، مبينةً أنه الآن تقلصت الأسرة الممتدة وانتشرت النووية التي عبارة عن الأب والأم والأبناء، منفردة قليلاً عن العائلة الكبيرة، بحكم تغير بعض العادات والتقاليد، وبسبب ظهور الفردية والخصوصية لكل فرد، حتى أصبحت -للأسف- هذه العلاقات الأسرية هشة، فقط صور اجتماعية تظهر في المناسبات والأعياد، وقلوبهم أصبحت مبتعدة وجافة. د. نادية التميمي هيفاء الصفوق وأضافت أن لذلك عدة عوامل، البعض يعتبر العادات والتواصل شيئا مبالغا فيه لذا لجأ إلى تخفيف ذلك دون إدراك منه، وربما أصبحت الاهتمامات مختلفة، وأصبح بعضهم مشغولا بعمله وبطموحه حتى تجاهل أن هناك أسرة تحتاجه، مبرراً ذلك بسبب الأعمال، وهذا أهم العوامل التى تخدع بعضهم وتسبب انعزالهم عن بعض، ذاكرةً أنه هنا تدخل الأنا أو الأنانية والبحث فقط على المصلحة، وأصبحت القيمة هي شخصية وليست كما كانت في السابق اجتماعية وأسرية بالدرجة الأولى؛ لأنه خفّ إحساس المسؤولية تجاه الآخر، مما تسبب في وجود فجوة كبيرة في الأسرة الواحدة. قساوة قلب وأشارت هيفاء الصفوق إلى أنه تغيرت مفاهيم عديدة في الحياة، وهناك من لازال متمسكاً بها، وهناك من تغير وأصبحت لديه مفاهيم مغايرة عن أسرته، ومن هنا حدثت التصادمات بين أفرادها، فهناك من يعاني قساوة القلب وقلة الاحترام والخضوع للأنا ومتطلباتها، خاصةً في الحياة المدنية، مضيفةً أنه أصبح همّ أفراد الأسرة الواحدة الاستغلالية وحب الفردية، مما جعله يبتعد عن أسرته، وهذا يجعلنا نلاحظ تمسك الأفراد بالجانب المادي والاقتصادي متناسين ومتجاهلين الجوانب الأخرى، التي أهمها الروحي الذي يقوم على المحبة والود، وعلى مبدأ الأخذ والعطاء غير المشروط، مبينةً أنه وُجدت الغيرة والصراع والضجر بين الإخوة، بل وصل إلى تجاهل قيمة الأب والأم، حتى أن البعض يفعل ذلك لأداء الواجب فقط، زيارة خالية من الحب والمعنى الحقيقي من التواصل، أصبحت حياتهم تشبة آله جامدة لا روح فيها. وأضافت: سمعنا قصصا يشيب لها الرأس بسبب قسوة أبناء على آبائهم، أو قسوة أخوان على أخواتهم لعدة أسباب منها؛ التعصب بالرأي، والسيطرة وغياب التفهم، وعدم مراعاة احتياج الآخر، لتصبح الصِّلة الأساسية مفقودة من الداخل، أي افتقاد الحب، مُشددةً على أهمية إدراك قيمة الأسرة، وعدم الانشغال عنها، فهي الأساس الأول، وهي المرجع لكل أفرادها. العيش في العالم الافتراضي أحد أسباب التفكك الأسري ضعف الروابط وتحدثت د. نادية التميمي -استشارية إكلينكية- قائلةً: حدوث الجرائم الأسرية يأتي بسبب تباعد أفرادها، وضعف الروابط التى تتسبب في حدوث مشاكل العنف، والتى بدايتها تكون من تباعد الوالدين وضعف لغة الحوار، بمعنى أنه لم يعد هناك أوقات تتشارك فيها الأسرة في النشاطات، وأصبح كل واحد منشغلا باهتماماته، أو مع وسائل التكنولوجيا الحديثة، والتى تشغلهم حتى أثناء تواجدهم مع بعض، مضيفةً أنه لم يعد هناك حوار لمناقشة مشاكلهم أو أمور حياتهم، بل قد يكون الحوار في الأمور العامة والأمور الشخصية يُدار مع الأصدقاء أكثر، وهذا أثّر على العلاقات الواقعية لدرجة أن أحد الوالدين إذا سأل ابنه أو ابنته عن يومياتهم الدراسية فإنه يرد بإجابات مقتضبة رغبةً منه في البعد عن النقاشات العميقة، وربما بسبب أن التعبير الكتابي مع الآخرين أفضل من المواجهة، مشيرةً إلى أنه بتنا نرى الكثير من الناس لا يستطيعون التعبير عن أحاسيسهم ومشاكلهم وفقدوا ملكة سماع صوت الآخر، لذلك أصبح البحث عن الحلول من أصعب الأشياء. غياب الأُلفة وأوضحت زينب العايش -استشارية طب نفسي- أن سبب الجرائم الأسرية عائد بالدرجة الأولى إلى فشل العلاقات بين أفرادها، والتي تعيشها الكثير من البيوت، حيث أصبحت ممارسة العنف أمرا واردا؛ لأن معظم الناس أصبحوا متيقنين أنه لم يعد لديهم الصبر الكافي ولا الحكمة في معالجة المشاكل، في ظل ضعف الوازع الديني وغياب الأُلفة والتراحم بين الأخوة، لذلك تتحول طاقة الحب إلى "كُره" سريعاً، إضافةً إلى ضعف التواصل والذي يمارس عبر وسائل التقنية الحديثة والذي يعتبر سببا مساعدا للهجر بين الأخوة، لافتةً إلى أن العلاقات بشكل عام أصبحت هشة والتربية ضعيفة، وعندما تجتمع مع المشاكل تشكّل مثلث الجريمة التى أصبحت أفضل الحلول للتخلص من الطرف المزعج من وجهة نظر ضيقة، متأسفةً أنه بهذا الفعل تتفكك الأسرة سريعاً وتبدأ سلسلة اللوم من الجميع.