اقتصاد الدول في المجمل موزع بين صناعتين، صناعة الخدمات (Service Industry) وصناعة السلع (Product Industry). الأولى لا يوجد فيها منتج ملموس محسوس لأن ما يقدم فيها للعميل هو (خدمة) تتفاوت جودتها من جهة لأخرى. حينما يتحدث (العميل) هاتفياً مع موظف شركة الاتصالات أو شركة الطيران فإنه لن يبيعه هاتفاً ولا طيارة وإنما يقدم له مجموعة خدمات، الرعاية الصحية كذلك صناعة خدمية من الدرجة الأولى؛ لأنها تقوم على مبدأ التواصل والتفاعل المباشر بين متلقي الخدمة أو العميل (وهو هنا المريض وعائلته) ومقدم الخدمة (الطبيب والممرضة وموظف الاستقبال)، صناعة الخدمات تتطلب بالضرورة الحاجة للمعرفة والفهم الكامل لأدق احتياجات ومتطلبات العميل حتى يمكن تلبيتها بالمستوى الذي ينشده أو يتوقعه، ولأن عمق وشدة الخدمة يختلفان دائماً باختلاف التفاعل بين طرفيها، فإنه يمكن اعتبار الرعاية الصحية من الخدمات ذات العمق الشديد؛ حيث يكون التفاعل والتواصل وجهاً لوجه، فالعميل هنا -أو المريض- هو جزء أساسي من مقومات الخدمات الصحية بداية ونهاية، ومع تطور صناعة الطب أضحى صوت المريض هو المحدد الأول لنجاح الخدمة بمكوناتها الثلاث: المدخلات والعمليات والمخرجات. إذا أردنا أن نطور خدمات الرعاية الصحية في المملكة فلا مناص إذن من تغيير طريقتنا القديمة في التفكير بالمريض على أنه (الحلقة الأضعف) في النظام الصحي ليصبح هو الحلقة الأقوى. هذا مطلب سهل صعب في آن واحد، لأنه يتطلب إعادة هندسة النظام الصحي كاملاً (System Re-design) بحيث تتمركز كل مكوناته حول المريض وليس حول الطبيب. سلامة المريض وراحته ورضاه عن التجربة التي عاشها في المستشفى أو في المركز الطبي هي مطلب الأنظمة الصحية المتقدمة اليوم، وأهم مراحل تلك التجربة هي بداياتها ونهاياتها لأنهما الأطول بقاء في الذاكرة. هل وجد المريض مكاناً قريباً من المدخل ومحمياً من الشمس يركن فيه سيارته عندما حضر إلى المستشفى، وهل كانت ابتسامة الممرضة المسؤولة عنه آخر ما رأته عيناه قبل خروجه إلى البيت؟ وما بين الدخول والخروج، هل كان التعامل معه من قبل طبيبه المعالج مثل التعامل معه من قبل موظف الاستقبال، كلاهما قائم على الإنسانية والاحترام والمهنية وأخذ موافقته الكاملة الواعية على كل إجراء تم عمله له؟ هل كان الطعام ساخناً وفي موعده دائماً، وهل كانت برودة الغرفة مناسبة وهل كانت الممرضة تستجيب بسرعة لندائه وهل كانت الإجراءات تتم بسرعة وكفاءة؟ وعندما يحدث التأخير، هل كان هناك من يشرح له دوماً سبب ذلك ويعتذر له بلطف؟ هذه الأمور كلها هي ما يحدد في النهاية تجربة المريض (Patient Experience) وبالتالي رأيه في النظام الصحي ومدى ثقته به. هل قلنا شيئاً هنا عن شهادات الطبيب المعالج أو جنسيته أو من أية جامعة تخرج؟ أو ما هو نوع الجهاز المستخدم في التخدير أو ما الذي فعله الجراح بالتفصيل أثناء العملية الجراحية؟ كلا ، لأن هذه كلها أمور لا يعيرها المريض في العادة اهتماماً ولا يسأل عنها، هذه كلها أمور تجري (خلف الستارة) وما يهم المريض وعائلته هو الرعاية (Care) التي قدمت له، أي ما يراه على المسرح أمامه: الاهتمام والتبسم وهدوء المكان والتعامل اللبق وتوفير المعلومات والأكل الساخن وسرعة الاستجابة! خبراء تطوير الأنظمة الصحية يفرقون ما بين الخدمة والرعاية والمعالجة أو الاستطباب. الخدمة (Service) هي المحيط المعتمد على التجربة والإحساس الشخصي، أما الرعاية (Care) فهي الأنشطة التقنية المصاحبة كالبشاشة، الشرح، طريقة التعامل، توفير المعلومات، سرعة الاستجابة...إلخ، أما الاستطباب والمعالجة (Cure) فهو مجموعة الأنشطة المتعلقة بالتعامل المباشر مع الحالة المرضية وإصلاحها، بمعنى هل تم علاج المرض الذي يشتكي منه المريض بالشكل الصحيح وفي الوقت الصحيح؟ المريض لا يحتاج للتمييز بين معاني ما سبق وهو يحكم على جودة الخدمة بغض النظر عن تفرعاتها. لا بد لكل المختصين في القطاع الصحي والمسؤولين عن رسم سياساته من الانتباه إلى حقيقة بسيطة ولكنها مهمة وهي أن مريض اليوم لم يعد مريض الأمس، مريض اليوم يشاهد العالم كله على صفحة قوقل، ويتلقى الأخبار عبر عشرات القنوات الفضائية، ويحمل في يده اليمنى (سمارت فون) وفي الأخرى الكمبيوتر اللوحي (الآيباد)، مستواه العلمي أعلى، ويشتري الكتاب بنسخته الإلكترونية فوراً عن طريق أمازون، لديه معلوماته أكثر، وسقف توقعاته أعلى. لم يعد مجدياً للطبيب السير بنفس السرعة التي كان عليها قبل عشر سنوات مثلاً، ولم يعد مقبولاً أن تصل نتائج المختبر إلى المريض بعد ثلاثة أيام! لم يعد للثلاثة الأيام هذه وجود في كل الصناعات الأخرى غير الطبية ومع ذلك فلا يزال التأخر والبطء ديدن الممارسة الطبية في كثير من البلدان. صحيح أنه لا مجال لضمان نتائج العلاج (Cure) بنسبة مئة بالمئة كون ذلك خارج التحكم في كثير من الأحيان لاسيما أننا نتعامل مع حالات مرضية مختلفة التشخيص والشدة، ولكن من غير المفهوم لماذا لا نستطيع توفير مئة بالمئة من الرعاية المتوقعة منا والتي هي ممكنة وتحت سيطرتنا؟! ما الذي يمنعنا من أن نتعامل مع المريض بأريحية وببشاشة وجه؟ وما الذي يعيق عن تقديم المعلومات التي تهمه بأسلوب مبسط ومفهوم؟ وما الذي يعيقنا عن توفير بيئة تتميز بالهدوء لا بالضجيج، ناهيك عن النظافة والصيانة وسرعة الاستجابة ونوعية وكيفية تقديم وجبات الطعام إلى آخر القائمة؟! قد نقدم للمريض أغلى العقاقير وأكثرها تطوراً، وقد نجري له أدق وأغلى التشخيصات الإشعاعية والمخبرية ومع هذا كله تراه متبرماً وغير راض، فلنسأل أنفسنا: لماذا؟ الجواب واضح وضوح الشمس في نهار الصيف: إننا لم نقم بما يجب فيما هو أبسط وأسهل وهو الرعاية التي في متناول أيدينا. إن تحسين جودة الرعاية الصحية بشكل مستمر مسؤولية تقع على عاتق جميع العاملين بالحقل الصحي وبلا استثناء، وعلينا جميعاً صرف الوقت الكافي لمعرفة وفهم احتياجات ومتطلبات المريض، كل في مجاله، ومن ثم مهارة استخدام المدخلات المناسبة عبر أنشطة دقيقة لتحقيق ذلك. هنا يجب أن نفرق بين ما نفعله الآن وما يجب أن نفعله ويحقق قيمة (Value) من وجهة نظر المستفيد من الخدمة، الفارق بين الاثنين هو باختصار تعريف (الجودة) كما يراها المركز السعودي لاعتماد المنشآت الصحية (سباهي)، مدير المستشفى هو الشخص الأهم في رحلة التحسين المستمر للجودة بحكم موقعه المؤثر في المنشأة وليس لأنه الأذكى أو الأفضل، جودة الخدمة التي يقدمها المستشفى منوطة بأقل عامل فيه بقدر تأثرها بأعلى مدير تنفيذي، كل منهما له دور مهم يلعبه. يقال إن الرئيس الأميركي جون كينيدي في إحدى زياراته لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا) سأل عامل نظافة: ماذا تفعل هنا؟ أجاب الرجل: أنا أساعد في وضع أول إنسان على سطح القمر! هكذا إذن يصبح أصغر عامل في المنشأة منسجماً مع أكبر مدير تنفيذي فيها من حيث الرؤية والأهمية والتوجه! فلنعد النظر فيما نقوم به ولنستعض عن النظر لمؤسساتنا (من الداخل إلى الخارج) بنظرة متفحصة من الخارج إلى الداخل، بمعنى آخر، يجب أن نشاهد أنفسنا بعين المريض وذويه لأن جودة العمل الطبي هي ما يراه المريض كمتلق للخدمة وليس نحن مقدميها، فالجودة تبدأ بالمريض وتنتهي بالمريض؛ لأنه هو السيد صاحب الكلمة الفصل، وكل أفراد الطاقم الطبي والتمريضي والإداري مسخرون لخدمته ورعايته وتطبيبه. هذه دعوة لكل القياديين الصحيين باختلاف مواقعهم في المستشفيات والمراكز الطبية المختلفة لإعادة النظر في الأمر برمته، والجلوس على طاولة مستديرة مع فريق العمل والاتفاق معهم على أن (الوظيفة/ الوصف الوظيفي) شيء مختلف تماماً عن (الهدف/ الغرض) منها. الوظيفة تحدد ما يفعله الموظف عند مجيئه إلى مقر عمله كل يوم. أما الهدف (Purpose) فهو الغاية الأسمى والأعلى والأبعد: التفاني في خدمة المريض وعلاجه العلاج الأمثل الذي يجعله يغادر المستشفى مبتسماً مبتهجاً وليس العكس! *مدير عام المركز السعودي لاعتماد المنشآت الصحية (سباهي)