أما أهم تقدير للمواقف السعودية فجاءت عبر التأييد الرسمي للأمين العام لمبادرة الملك عبدالله للسلام، فبعد محاولات للتقليل من أهمية تلك المبادرة من بعض الأطراف، سارع عنان لتأييدها بوصفها تسير جنباً إلى جنب مع توجهات اللجنة الرباعية وكذلك خارطة الطريق المنبثقة عنها يزور السعودية هذا الاربعاء الأمين العام السابع للأمم المتحدة كوفي عنان، وتأتي هذه الزيارة ضمن جولة الأمين العام في المنطقة، وبالرغم من أن الأمين العام قد زار المنطقة مراراً إلا أن هذه الزيارة هي الأولى من نوعها للسعودية، حيث يظهر جدول زيارات الأمين العام - المنشور على موقع المنظمة - أكثر من 400 زيارة دولية قام خلالها بزيارة غالبية الدول الأعضاء، ومع ذلك فإن السعودية كانت غائبة عن جدول زيارات الأمين العام خلال أمانته الأولى، وبالكاد حصلت السعودية على فرصتها في عامه الأخير هذا .. ولكن هل يعني ذلك التقليل من أهمية الدور السعودي الدولي؟ أو عدم اهتمام السيد عنان بذلك الدور؟ الجواب في الحقيقة لا .. كانت السعودية قريبة من كوفي عنان، وكان هو أيضاً قريباً منها خلال مجمل الملفات والقضايا الحساسة التي طرحت على مستوى المنطقة، وحتى على المستوى الدولي. تأخر زيارة الأمين العام للسعودية ربما جاءت أساساً من منطق أن أولئك الذين تتفق معهم بشكل كبير يعفونك من ضرورات الزيارة لا سيما إذا كنت مشغولاً بوزن المشكلات والصراعات والكوارث الإنسانية التي يتعامل معها الأمين العام للأمم المتحدة حالياً. كوفي عنان الشاب الغاني المثابر - المولود عام 1938 -، والذي تخرج من جامعة العلوم والتكنولوجيا في كوماسي بغانا، لم يكن يدور في خلده أن يصبح الأمين العام للأمم المتحدة -وهو أعلى منصب ديبلوماسي دولي-، كان كوفي يأمل في أن ينال شهادة عليا في العلوم، ولكن مساره الدراسي أخذ شكلاً متنوعاً وثرياً، فقد حظي بمنحة لدراسة الاقتصاد في أرقى الجامعات الأمريكية، ثم ما لبث أن درس علم الإدارة في جنيف، وبين هذه الاختصاصات المتنوعة تقدم لوظيفة إدارية في منظمة الصحة العالمية بجنيف، وخلال ثلاثين عاماً من عمله بالمنظمة أصبح عنان أول أمين عام ينتخب من داخل العاملين في الأممالمتحدة، أي أنه أول رجل يدير المنظمة الدولية بعد أن سار طوال السلم الوظيفي فيها من الأسفل إلى الأعلى. من يطالع صفحة الموقع الرئيسي للمنظمة يدرك حجم الإشكالات التي تمتحن الأمين العام، فلم يسبق أن تطلعت الدول الأعضاء إلى المنظمة بمثل هذا القدر من التطلب والإلحاح بشأن دورها وواجباتها، في السابق كان الأمناء السابقون يقومون بوظيفة الموازنة والتوفيق ما بين أكبر قوتين في العالم للمعسكرين الشرقي والغربي، أما اليوم فإن الأمين العام يقف بين الولاياتالمتحدةالأمريكية وبين بقية الدول الأعضاء التي تنتظر منه أن يمثل مصالحها بإزاء القوة العظمى، وهي مسؤولية جسيمة ولاشك. الأمين العام لايرغب أن يخسر دعم أكبر قوة في العالم لمنظمته، ولا أن يتهاون بتطلعات باقي الدول الأعضاء. فعلى غرار الأمناء السابقين الذين كانوا يواجهون أزمات دولية بشكل مستقل كالحروب، والثورات، والدول الحديثة الاستقلال، فإن الأمين العام الحالي يواجه أربعة ملفات رئيسة دفعة واحدة، يمثل كل واحد منها تحدياً كبيراً على مستقبل المنظمة: تجديد وإصلاح الأممالمتحدة، الإرهاب العالمي، العراق، خارطة الطريق للسلام في الشرق الأوسط. بالرغم من كل ذلك يواجه كوفي عنان أزمة ثقة حادة -بسبب ملف «النفط مقابل الغذاء»- أكبر مما كانت عليه الأحوال زمن الأمين العام السابق كورت فالدهايم، ولكن اللافت للنظر هو قدرة عنان الكبيرة على تجاوز كل هذه العقبات والتعامل بجدية مع كل الملفات المطروحة، وعلى رأسها إصلاح هياكل الأممالمتحدة. إلا أن أهم ما يميز كوفي عنان عن سابقيه من الأمناء رغم كل ما يواجه المنظمة من انتقادات، هو تركيز كوفي عنان على إيصال يد وصوت المنظمة للفرد العادي، وهي رسالة يمكن رصدها في جهوده التي تتعلق بملفات السلام سواء حين كان مبعوثاً في البلقان، أو حتى في زياراته لخيام اللاجئين في دارفور. بفضل دعمه وتركيزه على منظمات المجتمع المدني استطاع عنان تقوية دور المنظمات غير الحكومية داخل المنظمة الدولية الغارقة في البيروقراطية، وربما لا يعرف الكثيرون مقدار التغيير الذي أحدثه عنان على مستوى الملفات الكبيرة مثل أفغانستان، أو أندونيسيا، ولكن لا يستطيع المرء تجاهل الدور الذي باتت فيه المنظمات غير حكومية فاعلة خلال مشروعات الأممالمتحدة المتعددة في الصحة، والإنماء السكاني، وحتى وصولاً للقضاء الدولي. يتذكر السعوديون جيدا بأن كوفي عنان هو أول أمين عام يسند منصباً هاماً لسيدة سعودية هي د.ثريا عبيد، ويمكن وصف علاقة السعوديين ب كوفي عنان بالتوافق والانسجام طوال السنوات التسع الماضية من أمانته، بل هي الفترة الأكثرة فعالية للدور السعودي داخل المنظمة الدولية، ويمكن عزو هذا التوافق والانسجام لسببين: 1 أن السعودية لم تكن طرفاً في أي نزاع دولي خلال فترة كوفي عنان، بل على العكس تمكنت السعودية من التوقيع على أغلب اتفاقات المنظمة، واستطاعت إغلاق عدة ملفات مهمة بالنسبة للأمم المتحدة مثل مسائل الحدود، فعلى المستوى الإقليمي وقعت السعودية اتفاق الحدود مع اليمن، وعززت اتفاقاتها الأمنية والتعاونية مع دول الجوار، كما حثت جيرانها على حل مشكلاتهم الحدودية من خلال مؤسسات الأممالمتحدة. 2 أيدت السعودية ودعمت مجمل الاقتراحات، والمبادرات التي قام بها كوفي عنان، فمن جانب رأت السعودية انحساراً وضعفاً في المؤسسات الإقليمية ولهذا ركزت جهودها على المنظمة بشكل أكبر، ومن جانب آخر أبدى كوفي عنان وعياً أكبر لتنامي أهمية الدور السعودي في المنطقة، ودعمها لدور المنظمة في حل هذه المسائل. في نوفمبر 2000 التقى الأمين العام كوفي عنان بالعاهل السعودي الملك عبدالله على هامش قمة منظمة المؤتمر الإسلامي بالدوحة، وكانت فرصة ل كوفي عنان ليشهد أهمية الدور السعودي في محيطه العربي والإسلامي، وخلال يونيو 2001 أبدى عنان تفهمه للموقف السعودي بعد تلقيه رسالة من السعوديين تتعلق بملكيتهم لخطوط آبار النفط التي ربطت العراق وصولاً إلى البحر الأحمر، حيث كان من المتعذر إصلاح تلك الأنابيب التي أغلقت بعد غزو العراق للكويت عام 1990 نظراً لاستمرار النظام العراقي وقتها في سلوكه العدائي تجاه دول الخليج. أهمية الدور السعودي ل كوفي عنان تجلت في أكثر من موقف، فالسعودية لبت نداء الأمين العام في أكثر من مناسبة بخصوص دعم وتقديم المنح لكل من أفغانستان والعراق بعد الحرب، وأماكن الكوارث في الشرق الأقصى بعد التسونامي، وزلزال كشمير مؤخراً. وقد أبدى كوفي عنان مرات عديدة استنكاره للأعمال الإرهابية التي وجهت ضد السعودية في الداخل، ودعمه للاجراءات الاحترازية التي تتخذ لمكافحة الإرهاب. أما أهم تقدير للمواقف السعودية فجاءت عبر التأييد الرسمي للأمين العام لمبادرة الملك عبدالله للسلام، فبعد محاولات للتقليل من أهمية تلك المبادرة من بعض الأطراف، سارع عنان لتأييدها بوصفها تسير جنباً إلى جنب مع توجهات اللجنة الرباعية وكذلك خارطة الطريق المنبثقة عنها. طبيعة العلاقة السعودية بالأممالمتحدة مستقبلياً يمكن رؤيتها من خلال موقف السعودية من الملف اللبناني-السوري، فقد حظي قرار الأممالمتحدة 1559 بتأييد السعودية، بل وبمباشرة وتدخل منها خلال القنوات الديبلوماسية في المنطقة لاسيما بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، مما دعا الأمين العام للأمم المتحدة إلى إشراك السعودية مع الولاياتالمتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي في اجتماعات خاصة لبحث ولقاء الحكومة اللبنانية الجديدة في سبتمبر الماضي، وهو مؤشر هام على ثقة وتقدير الأمين العام للدور السعودي في استقرار المنطقة. الزيارة الحالية ل كوفي عنان تأتي في وقت حساس، ومهم بالنسبة للسعوديين لا سيما وأن الملف السوري هو واحد من الملفات التي يسعى السعوديون جاهدين لحله وفق إرادة المجتمع الدولي بعيداً عن التجربة العراقية المدمرة، ومن المؤكد أنه ستتم مناقشة شؤون متعددة خاصة ببرامج الأممالمتحدة المختلفة. ماذا يرغب السعوديون من كوفي عنان؟ .. القضية الوحيدة التي لم يسمع السعوديون رداً عليها من قبل كوفي عنان هي بخصوص مقترح وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل بإنشاء «مركز دولي لمكافحة الإرهاب»، فالسعوديون عبروا في مناسبات مختلفة عن قلقهم لغياب تعريف واصطلاح تقني للإرهاب داخل منظمة الأممالمتحدة، وكذلك غياب جهد دولي من قبل المنظمة للمعالجة الفكرية، والأمنية للقضايا المتعلقة بالإرهاب، فاللجنة السادسة التابعة للجمعية العامة، والمسؤولة عن إيجاد تعريف للإرهاب وفق اتفاقية شاملة لمكافحته ما تزال حتى الآن خارج دائرة الضوء منذ تكليفها. نحن نعلم أن الأمين العام قد أنشأ بموجب القرار 1373 لجنة مكافحة الإرهاب (CTC) المؤلفة من أعضاء مجلس الأمن، والمسؤولة عن مراقبة تنفيذ الدول لتعهداتها فيما يخص مكافحة الإرهاب. اللجنة أوصت في تقريرها إلى الأمين العام -المسمى- «التدابير الرامية للقضاء على الإرهاب الدولي» بضرورة أن تتولى إدارة الشؤون السياسية في المنظمة تنسيق المسائل السياسية والاستراتجية المتعلقة بمكافحة الإرهاب، وهو تعديل من شأنه أن يجعل مكتب مراقبة المخدرات ومنع الجريمة مسؤولاً فقط عن متابعة تنفيذ الاتفاقات. وواضح من ثنايا التقرير أن هناك ضرورة مهمة لإعادة النظر في مسائل التنسيق حول الإرهاب، وهو أمر يقف في صف الاقتراح السعودي. لا أظن أن مقترح السعودية بشأن إنشاء «مركز مكافحة الإرهاب» يبتعد كثيراً عن تلك الاستراتيجية التي تضمنها خطاب الأمين العام في مدريد في مارس 2005 أثناء مؤتمر «الديموقراطية»، بل إن هيئة مركز دولي ستكون فكرة أكثر براجماتية وعملية من إمكان توصل كافة الدول الأعضاء إلى اتفاقية شاملة بخصوص الإرهاب وتعريفه، فكرة المركز بإمكانها أن تعطي وسائل أفضل لمكافحة الإرهاب لا سيما وأن الإرهاب الدولي يتبدل ويتغير مع الوقت، وسيلزمنا وجود آليات عمل قادرة على مكافحته عبر استباق الجماعات الإرهابية، بل والحيلولة دون مسببات وجودها، وعوامل بقائها، فإذا أخذنا على سبيل المثال أثر مكافحة تمويل الإرهاب فإن نماذج للحلول العملية أمكن القيام بها حتى هنا في الشرق الأوسط، فقد تمكنت 14 دولة عربية من إنشاء قوة العمل المالي للشرق الأوسط وأفريقيا في نوفمبر الماضي، وقد تمكنت قوة العمل هذه من إقناع الدول الأعضاء على متابعة تطبيق معايير الأممالمتحدة الخاصة بغسيل الأموال ومحاربة الإرهاب، مما يثبت جدوى قيام هيكل تنظيمي يتعاضد الشركاء فيه على الوصول لحلول مشتركة مع الوقت. السعوديون يرغبون من كوفي عنان طرح هذا المقترح على الجمعية العامة، وأظن بأن هناك رغبة شعبية سعودية من أن يمارس مكتب الأممالمتحدة بالرياض إقامة تواصل مع الطبقة الشعبية هنا في السعودية، مؤخراً أعلن عن تسمية نجم كرة سعودي، ومقدمة برامج سعودية كسفراء للنوايا الحسنة وهي بداية جيدة ولاشك لإشراك المواطن السعودي في مشروعات الأممالمتحدة، كما أن هناك حاجة ملحة لتفعيل وتنشيط ثقافة المجتمع المدني، والمواطنة العالمية، ومكافحة الفقر عبر البرامج المطروحة في إطار هيئات الأممالمتحدة المختلفة، اللغة السائدة في بعض الأوساط التنفيذية لمثل هذه البرامج هي أن الدول الغنية غير محتاجة لفوائد هذه المنح والبرامج، ولكن التجربة تثبت بأن بعد هؤلاء عن الاستفادة يكّون لديهم عزوفا عن فهم وتقدير جهود وأهداف هذه المنظمة، وسيكون مهماً في المستقبل أن يرتبط السعوديون أكثر فأكثر بالأهداف الأممية للمنظمة وهو ما سيعزز مشاركة الفرد أياً كان مكانه في هذا العالم للمساهمة في حفظ الاستقرار، وتحقيق السلام. [email protected]