فوجئنا حين فتحنا الكُتَيِّب الذي اشتريناه من الجناح العراقي والمُفْتَرَض أن يحوي رسوم أطفال المخيمات التي جمعها الفنان آي وي وي، حيث واجهتنا الصفحات بيضاء اشبه بدفتر، وللآن لا نعرف ما الخطأ الذي وقع وأدى لذلك الفراغ. ليلتنا الأولى في فينيسيا وباستشارتنا لدليل المطاعم الجيدة تسلط الضوء من جديد على ذلك المطعم إلى جوار جسر ريالتو الشهير، وكان مشهوراً بوجباته البحرية، وكان من المطاعم التي احتفلنا فيها بالاستعدادات لعرض عمل شادية (الفلك الأسود) عام 2011. ولجنا الزقاق الضيق المعتم وبمنتصفه ينفتح ذلك المطعم بأنواره، واستقبلَنا النادلُ الأسمر بالحاجبين من سوادٍ كثيفٍ ولُمَّةِ الشعر الفاحم، وكان في الثلاثينات من العمر، وأبدى حماسة في استقبالنا بلكنة ولغة جسد إيطالية، وقادنا لتلك الحجرة الخلفية. وانحنى بمسرحية لتلقي طلباتنا، سألتْه شادية: "لديكم الأرز بالفواكه البحرية؟" " نعم، الروزيتو اختصاصنا. وهو طيب وطالع للتو من القِدْر." تَعَجَّبنا لتعبير طالع من القدر، وانساقت شادية وتالة لطلب ذلك الروزيتو الطالع من القدر. وحين طلبتُ سمكَ الهامور، اعترضَ االنادلُ مُحَذِّرَاً، "لكنه ياسيدتي لشخصين ولا يُمكنك التهامه وحدكِ." و تَكَرَّرَ الأمرُ، كلما طلبنا طلباً اعتذرَ النادلُ بلهجةِ من يريد تثبيط الهمم لكأنما كل طلب يُثقل عليه بصفة شخصية، أخيراً استسلمنا لطرافة الموقف وتركنا له الخيار، "حسناً، فما هو المتوفر لديكم." اعتدلَ في وقفته كجنرالٍ مُوَزِّعَاً علينا المهام، "اقترح ياسيدتي سمكة البطليموس، فهي جيدة وبكمية تناسب شهية سيدة."تم"00 وأكمل، " أما أنتِ ياسيدتي." مُوَجِّهَاً تعليماته لكاثرين المصورة الأميركية القادمة لتوها من تصوير فيلم وثائقي في معسكرات اللاجئين السوريين بلبنان،"فيمكنكَ طلب شريحة اللحم المقلية." وأذعنا بأمل ألا ننام جياعاً وألا نفسد روح البهجة التي بدأنا بها ليلتنا. غاب النادل للحظة ولم نلبث أن نتنفس الصعداء حين عاود الظهور بسرعة البرق بثلاثة أطباق مستطيلة من الروزيتو، وَزَّعَهما على تالة شادية وأنا، هنا اعترضتُ، "لكنني لم أطلب روزيتو، طلبت سمك البطليموس بناءً على اقتراحك أنتَ." "حقاً؟!!" بدا كفاقد للذاكرة. " حسناً." بمسرحية سَحَبَ الطَبَقَ من أمامي وتأمَّلَ فينا، يتفحصنا ليفرضه على أي واحدٍ منا، وحين اصطدم بوجوهنا المُصْمَتَة استسلم، "حسناً ربما طبقها قليل، سنترك هذا هنا كإضافةٍ." وَضَعَ الطَبَق بمنتصف الطاولة وتلاشى. انتبهنا لأن طبق تالة لا يزيد عن ملعقتي روزيتو مبسوطة كطلاءٍ على الطبق الطويل. وتعاظمت دهشتنا فهي المرة الأولى التي يُصادفنا مثل هذا الموقف أن يُقَدَّم طبقٌ داعمٌ للأطباق الهزيلة كسبيلٍ مفتوحٍ للجائعين، لكننا لم نعترض، ولكن سرعان ما خابت تَوَقّعاتنا في سرعةِ الخدمة، فلقد أخذنا ننتظر ظهور طبقي وطبق اللحم المقلي للمصورة كاثرين. بينما أخذ الروزيتو يبرد ويبرد ومَرَّت نصف ساعة، ورغم كره شادية للأكل البارد فلقد صمَّمت على انتظار طبقينا أدباً. ومرَّ نادل آخر فاستوقفته شادية، " أليس من المُتَعَارَف عليه أن يتم حضور كل أطباق الزبائن في وقت متزامن؟ نحن ننتظر بقية الأطباق لأكثر من نصف ساعة بينما أكلنا يبرد..." وتظاهر النادل بعدم الفهم، حتى يئسنا من الاعتراض وجلسنا بمواجهة الروزيتو المثلج. فجأة انبثق أمامنا النادل بالحاجبين الكثيفين، موجهاً كلامه لشادية، "سيدتي لقد أطلعناكِ على الوضع ولم تعترضي، قلتُ لك بأن الرزويتو طالع لتوه من القِدْر فهل كنتِ تريدين لنا الانتظار عليه ليفسد؟" "لم نفهم أنكم ستقدمونه هكذا ليفسد على الطاولة بينما تجهز بقية الأطباق." "حسناً إن لم يُعجبكِ أخذناه." و بلا مقدمات اختطف الطبق من أمامها وتركه مرفوعاً في الهواء، "هاه؟ هل تريدين أن نأخذه." "نعم، إن كنتم ستقومون بتسخينه وتقديمه مع بقية الأطباق." "لا لا مع الأسف ياسيدتي فسأقوم بقذف هذا في الزبالة وسيقوم الطاهي بطهي روزيتو جديد من أجلكِ." " حسناً، هذا أفضل." ارتفع حاجباه، "لكن، لابد وأن تعرفي بأن طهي الروزيتو سيستغرق 45 دقيقة، وأن بقية الأطباق ستجهز في الربع ساعة القادمة، فهل أنتِ على استعداد لانتظار 45 دقيقة إضافية؟" التهديد المبطن يقول بأنها ستنتظر الليل بطوله. "هاه؟ هل أترك هذا الطبق أم آخذه؟" مُحَوِّمَاً بالطبق في الهواء كمن يهدد بتلاشيه في اللحظة التالية، كان لابد من الإذعان حيث لم يعد التلذذ بالوجبة هو المهم وإنما متابعة تداعيات ذلك الموقف التراجيكوميدي. "أتعرفين ياسيدتي هذه اصول أكل الروزيتو." " هكذا؟! أن يؤكل بارداً؟" تردد أمام سخرية شادية، ثم أمعن، "الإيطاليون يأكلون الروزيتو بحرارة معتدلة، مثل هذه." ولم يكن ثمة اعتدال في برودة الروزيتو المهمل على الطاولة، لكن لم نضلع في مزيد من الجدل. أخيراً تنفسنا الصعداء حين ظهرت بقية الأطباق. لكن فرحتنا لم تكتمل، اللقمة الأولى التي تَنَاولتُها من سمكة البطليموس أصابتني بالغثيان، إذ لا أثر لسمكٍ فيها، فقط مذاق عجين لزجٍ وبيض، وتأملت في طبق كاثرين، إذ ايضاً لا اثر للحم فيه فقط طبقة من العجين المُحَمَّر. مَضَت كاثرين تأكلُ بصبرٍ وقد اعتادت التقشف في معكسرات اللاجئين، بينما كففتُ عن الأكل. حضر النادل الآخر، " هل انتهيتم؟" ورفع الأطباق متأملاً في طبقي الذي لم يُمَسّ. في ثوانٍ ظَهَرَ النادل الكثيف الحاجبين، انحنى على طاولتنا وثبت عينيه فيَّ، "لماذا لم تتناولي السمك، أهناك خطب؟" قالها بنبرة تنصح باللوم أكثر من الاهتمام. "لكن أين السمك؟ لم يكن غير ثمة مذاق بيض وعجين لزج." "ألا يعجبكِ البيض؟" "أحب البيض لكن ليس حين يكون مُتَحَوِّراً عن سمك." "من أين أنتم، من إيران؟" وحرصاً على عدم الخوض في حوار شخصي أمَّنتُ، "نعم." "ههه." كأنه عَثَرَ على مفتاحٍ لكل مجريات الليلة العجيبة تلك، وأعلن بلومٍ كمن يُحَمِّلنا مسؤولية أصله، "أنا كردي." وتأمَّلَ فينا كمن يَتَوَقَّع أن نتصاغر أمامه بحس بالذنب. وتبسَّمت كاثرين هامسة، " أكبر خطأ أن يُعلن أحدهم بأنه إيراني، لأن ذلك حري بإثارة ردود فعل سلبية لدى الكثيرين ممن لهم ثأرات مع الإيرانيين." وكانت بالفعل غلطة فادحة، فلقد نَقَلَ النادلُ الثأرَ بين الأكراد والإيرانيين في شخوصنا البريئة. وكان من الطبيعي أن يقوم بحركاتٍ مزعجة مثل أن يفتح النافذة خلف ظهورنا لكي يترك للهواء البارد أن يلفحنا ويقطع تسلسل حواراتنا، وحين اعتذرنا عن طلب أي نوع من الحلويات اعتبرها إهانة شخصية تستدعي الاستعجاب وأن يرفع لها حاجبيه، وحين طلبنا كشف الحساب غاب لدهرٍ يعاقبنا بحبسنا هناك، وحين حضر تعطلت الآلة رافضة بطاقات اعتمادنا من فيزا وماستر كارد، حتى تطوعت تالة بدفع المبلغ نقداً وأنهت تلك المسرحية وبحركة غريبة شملنا بنظرة قارسة وبتكشيرة عن انيابه انحنى قائلاً، " لقد كانت خدمتكم متعة." وتلاشى عن الأنظار.