صوت خاطف على نافذتي.. اختفى بلمح البصر. استيقظت وأنا احتضن وسادتي الدافئة وأرمق غرفتي ببعض النظرات الحادة قدماي باردتان وقلبي يرجف كعادته.. أنهض من سريري وأهرع إلى الشباك لأبحث عن مصدر الصوت لأجده وقد اختفى كطائر شوق لحق بصاحبه.. صوت سريع أشبه بطير الطنان أتى لينبئني بأمر ما... أرتديت ثوبي الغجري واستدار وشاحي الأحمر على رقبتي وأمسكت بمحفظتي الصماء وخرجت... تتخاطفني العيون، أسير منحنيةٓ الرأس... في أزقة هذا الحي المفعم بالكآبة وسكانه من الفضوليين حيث تتناهى إلى سمعي صباحاتهم الخافتة ولا أرد عليهم، هكذا اعتادوا على صمتي... أقترب من مقهى كئيب وأجلس في ذاك الركن العتيق... يا له من مقهى رمادي بلا طعم أو رائحة، لا ضحكات، ولا حتى وجوه مستبشرة... يقف النادل على رأسي... عمت صباحاً سيدتي فأرمقه بغضب وكأنه يستعير من ثغري نصف ابتسامة... كوب من الحليب الدافئ وهل تريدين أن أضيف عليه قليلا من "الشوكولا" بصوت ساده الضجر!!! تباً لك ألا تفهم قلت لك كوباً من الحليب فلا تكثر من الثرثرة.. حسناً سيدتي هل انتهى طلبك؟ لا.. أحضر لي رغيفاً ساخناً وإياك أن تتأخر وإلا قلبت الطاولة على رأسك. حسناً.. انحنى بجسده ليعبر عن استئذانه بالرحيل، فتحت محفظتي وأعطيته النقود فاستعاد قوامه ورحل... استدرت بنظري يساراً نحو تلك الطاولة المترنحة وإذا بي ألحظ عليها عجوزا "رث الثياب" يتقاسم مع عجوزه "كعكة الجوز" وقد عجت برائحتها أرجاء المكان. نظرا إلي وتوقفا عن الأكل وساد الصمت ولسان حالهما يقول ماذا تريد هذه الفتاة المتعجرفة؟؟!! بدأت نبضات قلبي تتسارع وأنفاسي تتسابق وصراع يدور في داخلي... عرق على جبيني رغم برودة المقهى.. ورجفة استوطنت أصابعي فلم اعد استطيع تناول الكوب من النادل... تظاهرت بالقوة فقلت له ضعه هنا وأشرت برأسي إلى مقدمة الطاولة... وضع الرغيف على طبق نحاسي بجانبه وغادر مسرعاً... الكل كان ينظر إلي وأنا مرتبكة هل أبدأ بالإفطار أم أتريث قليلا حتى يبتعدوا عن التركيز بطاولتي.. صوت الملاعق والسكاكين أصبح عالياً كصوت الصراع بداخلي... مرت نصف ساعة ولم أتناول شيئا سوى حبات من السكر على رغيف اسكتلندي جاف... أخرجت مرآتي من محفظتي ونظرت إلى عيني ومقصدي أن أرى من خلفي... فإذا بها ستة مقاعد جميعها ممتلئة... فزادت ضربات قلبي وعلت أصوات أنفاسي. وضعت المرآة على الطاولة واقتربت لأرى ملامحي فإذا بها شاحبة!!! نظرات غامضة وشفاه متشققة... أطبقت على منديلي حتى اختنق.. وقفت ممسكة بمحفظتي مدبرة، وخرجت مهرولة تاركة مرآتي خلفي دون اكتراث... وعدت كما أتيت....!! صراع يبعثره تشتت وهروب من الانخراط... إنه صوت القلق. (*) قاصة سعودية