ظفر الموت بجنتر جراس.. اصطاده أخيراً، عن عمد، ليصمت إلى الأبد، تاركاً ما أبدعه يحادث الأنسان عبر العصور!! عاش جراس الكاتب الألماني الكبير عمرا من الاختلاف، والانتقاد للسياسيين، وأصحاب السطوة. وكان جراس واحدا من كتاب العالم العظام، الذين ادركوا عبر مواقفهم الانسانية، أن حرية الأنسان لا تتم فقط عبر ما نكتبه، لكنها تتحقق عندما نواجه المظالم التي تسود عصرنا، المترع حتى الثمالة بتلك المظالم. صمت صوت صاحب «الطبل الصفيح» روايته الأكثر شهرة، والتي صنفت في تاريخ الأدب العالمي باعتبارها من أهم النصوص بعد الحرب العالمية الثانية. شكل يوما الفيلسوف «أدرنو» في قدرة الألمان على كتابة عمل ابداعي فذ عن محارق اليهود، فجاءت رواية جراس مثل صرخة في فضاء خريفي، تحمل احتجاجها ضد الغشامة، والعنف، والتمييز، وسياسات المخاوف والموت، وجسدت عبر تقنيات الكتابة، السخرية، وتأمل العالم الذي يكتب عنه، وفجيعته التي تشيع بين صفحات النص، والذي أبدعها الروائي بخبرته، ومعرفته بأدق تفاصيل الحياة، وتاريخ وطنه صاحب الجرم الكبير في اشعال الحروب. لقد كتب جراس هذا النص الفريد بموهبة الروائي والقاص والشاعر ومؤلف المسرح والرسام والنحات والخطيب السياسي والساخر العظيم !! ولد «جونترجراس» في 16 أكتوبر عام 1927 لأب ألماني، بروتستانتي وأم كاثوليكية، ولقد دفعته أحوال عائلته، وهو صبي في سن 17 للالتحاق بجيش النازي، فدفع ثمنا فادحاً، وعاش مرارة الموت، وكتب بوطأة هذا الأحساس رائعته «الطبل الصفيح». كما كتب جراس أيضا سيرته الذاتية «أثناء تقشير البصل» في ثلاث مجلدات، وهي سيرة عن الذاكرة والنسيان، ولقد أهتم عبر صفحاتها بسؤال عاش به، وظل يؤرقه طوال عمره، حتى رحيله: لماذا صمت الناس في بلاده عما فعله النازي تجاه البشر؟! ظل جراس طوال عمره مخلصاً لثقافة بلده، وكان صادماً في مواجهة الثابت من الأفكار القديمة، كما أنه أثار الكثير من الجدل حول حقوق الأنسان. كما كانت له مواقف حاده، ناقدة لأسرائيل الذي كتب عن عنصريتها واضطهادها للفلسطينيين فكتب قصيدته التي أثارت ضده ذلك الشغب. أمضى «جونتر جراس» حياته واحداً من المهتمين بالتجريب في الكتابة، ويسعى لأيجاد صيغ فنية معاصرة، بالذات فيما أبدعه من روايات، كان يكتشف من خلالها طرائق جديدة في السرد الذي أبدع من خلاله واقع أمته وكتب قصيدة حداثية ذات حضور في الشعر الألماني. ظل روائياً صعبًا، يتسم أدبه بالغموض، يمزج الخيال بالواقع، تتسم موضوعاته بمعالجة قضايا عصره، وأيضا قضايا الفقر وحقوق الجماعات المهمشة، بالذات فى العالم الثالث، وكتب عن حقوق المضطهدين، وحين كتب قصيدته النثرية «ما يجب أن يقال»، معلنا رأيه الواضح في قوة تهدد أمن البلدان كان يقصد بالتحديد أسرائيل، ويكشف عن موقفها العنصري تجاه فلسطين، ولم يخش اتهامه بمعاداته للسامية، وصمد للعاصفة. كان جراس محبا للحرية، صادقا مع ذاته، معلنا دفاعه عنها، وأنها الحق الأسمى لكل انسان على الأرض. أحب اليمن، مكانه وزمانه، بشره وفطرته، وفتنته عمارته إلى حد العشق. بيوت الطين تلك، التي ترتفع سامقة نحو السماء. عند زيارة أخيرة لليمن حكى الناقد العراقي «حاكم الصكر» تلك الحكاية بمدلولاتها. في لقاء معه ومع الوفود الثقافية العربية ورئيس هذه الدولة، أمتنع جراس عن الكلام إلا بعد أن يستمع هذا الرئيس المستبد لطلب تقدم به. كانت قضية الروائي اليمني «وجدي الأهدل» معروفة، فلقد كتب رواية لم يرض عنها السلطان ففرض عليها حجرا، ومنعا، ولم يجد الكاتب أمام رواية الاضطهاد الا الهرب، والفرار من اليمن. طلب جراس من رئيس الدولة أن يعود الكاتب إلى وطنه. وتقرر العفو عنه، لكنه سيمنع لاحقا عدة مرات من السفر، لكن جونترجراس أعلن فرحة لسببين كما قال: لأنه أفلح لاعطاء الحرية لكاتب كى يعود إلى وطنه دون مساءلة قانونية، وثانياً: وهذا ما قاله بضحكه مدوية، لأنه استطاع لأول مرة في حياته أن يقنع رئيساً باصدار قرار لكثرة مشاكساته للسلطات.