دعا ديننا الاسلامي الحنيف إلى الألفة والمحبة والتواصل بين الجيران، كما أنَّه شدد في أكثر من موضع في القرآن والسنة على حقوق وواجبات الجار، بيد أنَّ من يتأمل في أحوال بعض الجيران اليوم يجد فارقاً كبيراً بين حالهم وحال الجيران في الماضي، حيث أثَّرت المدنية الحديثة سلباً على هذه العلاقة، ولم نعد نلحظ لتلك العلاقة الجميلة بين الجيران وجوداً إلاَّ على نطاق ضيق، إلى جانب وجود شيء منها في عدد من الأحياء القديمة "الشعبية"، أو في القرى والهجر على وجه الخصوص. ذكريات جميلة وقالت أم عبدالعزيز –ربة منزل-،: "إنَّ الجيران في الماضي كانوا يحافظون على محبة بعضهم لبعض، وكانت هناك ذكريات جميلة وحنين للماضي، غير أنَّ رياح التغيير وإيقاع الحياة المتسارع الذي شهده العصر الحديث أثَّرت بشكلٍ كبير على هذه الصورة الجميلة، لدرجة أنَّ البعض نسي جيرانه، وأتذكر فيما أتذكر كيف كان الجيران يطلبون حاجاتهم البسيطة من بعضهم البعض، أمَّا الآن فإنَّ الأوضاع اختلفت". وأضافت أنَّ بعض الجيران أصبحوا في غربة فيما بينهم لا يعرف بعضهم بعضاً، موضحةً أنَّ صفة حسن الجوار أخذت في التراجع تدريجياً، مُبيّنةً أنَّ جيرة زمان لم تعد كما كانت، حيث إنَّ التآلف تحوَّل في كثير من الأحيان إلى تباعد وتنافر، خصوصاً لدى كثير ممَّن يقطنون الشقق السكنية، مُشيرةً إلى أنَّ هناك من لا يعرف إن كان جاره الذي يسكن في الشقة المجاورة له يسكن معه في العمارة نفسها أم لا؟. تعارف الجيران يعزز أمن الحي ويخلق علاقات إيجابية وتعاوناً ومودة لاتنقطع اختلاف الثقافات وأشارت مها الغالب -طالبة جامعية- إلى أنَّ العديد من سكَّان المدن هم من ثقافات مختلفة، وقدموا إلى المدن من أجل العمل، سواء كانوا موظفين أو لديهم أعمال تجارية خاصة، مُضيفةً أنَّ البعض أصبحوا يُفضلّون عدم الاختلاط بجيرانهم، لأنَّهم يعتقدون أنَّه لن يكون بينهم توافق نتيجة اختلاف الثقافات، مبيّنةً أنَّ الانشغال بأمور الحياة أثَّر بشكل سلبي على العلاقة بين الجيران، لافتةً إلى أنَّ التقنية الحديثة أضعفت الصلات بين الجيران. وأوضحت أنَّ من أهم الأسباب في توتر العلاقة بين الجيران بعض الموروثات الاجتماعية التي لا تزال باقية وعالقة في أذهان البعض، خصوصاً فيما يتعلَّق بانتقاد المأكل والمشرب والأثاث وبعض التصرفات، لافتةً إلى أنَّ بعض النساء حالياً تهمهنّ الشكليَّات إلى حدٍ بعيد. بُعد اجتماعي ولفت د.خالد النقيه -عضو هيئة التدريس في قسم الاجتماع والخدمة الاجتماعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية-، إلى أنَّ الإسلام حثَّ وحضَّ على الاهتمام بالجار وحقوقه، كما أنَّه حرَّج وحذَّر من إيذائه، موضحاً أنَّ النصوص والأحاديث في ذلك كثيرة مستفيضة، ومنها قوله تعالى: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إِحساناً، وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصَّاحب بالجنب وابن السَّبيل وما ملكت أيمانكم، إنَّ الله لا يُحبُّ من كان مختالاً فخوراً". وبين أنَّه جاء في الحديث عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتَّى ظننت أَنَّه سيُورِّثه"، مُضيفاً أنَّ في هذا الحديث بيان على عظم حق الجار، موضحاً أنَّ الأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة تُبيِّن سبق الإسلام إلى الاعتراف بحق الجار وأهميته، إذ أنَّه بذلك يُؤسِّس ويُؤصِّل علاقات الجيرة، لما لها من أهمية في تماسك المجتمع المسلم وتعاونه، وهذا بعد اجتماعي دقيق ينشر الرحمة والتعاون والاحترام والأمن بدون قانون أو عقوبات. علاقات نفعيّة وأضاف د.النقيه: "ما الحيّ أصلاً إلاَّ جيران، فإذا ساد بينهم التآلف والتكاتف والوئام والسلام، عاش النَّاس كلهم في أمن ورخاء، فلا جار خائفا ولا جار جائعا ولا جار يعيش وحيداً، بل تزاور وتعاون في السراء والضراء والمنشط والمكره، مؤكِّداً على أنَّ علاقات الجيرة في المجتمع المسلم وهنا في هذا البلد الذي هو مبدأ الإسلام ومأرزه، لا تزال متينة، حتى إن طرأ بعض التغيُّر في العلاقات الاجتماعية وأساليبها ووسائلها مع المدنية وكبر الأحياء وانتشار الأنانية لدى بعض الناس. وأكَّد على أنَّ من هذا التغيّر شيوع علاقات المصلحة والنفعية، فربّما أنَّ بعض الجيران في الحي أو في العمارة أو في المجمع لا يعرفون بعضهم، ونخشى مع الزمن أن يدب فينا داء الغرب الذي تكاد تنعدم فيه علاقات الجيرة، فلا تزاور ولا تعاون ولا تعارف ولا تكاتف، إذ إنَّ كلاً يعيش عالمه الخاص، موضحاً أنَّ القرى لا تزال -ولله الحمد- تنعم بعلاقات جوار متينة يسودها التحابّ والتعاون والحماية والتضامن. أحياء متماسكة وأشار د.النقيه إلى أنَّ أهمية علاقات الجوار تعظم في أوقات الأزمات والحروب والكوارث، متسائلاً: "ماذا تتوقع من حيّ أو مدينة أهلها متفرقون شذر مذر، الجار لا يعرف جاره ولا يوقره ولا يعرف له حق؟"، إنَّه عند الأزمة يأكل بعضهم بعضاً وينهب بعضهم بعضاً، ولربَّما اندسَّ بينهم العدو فلا يعرفونه، لأنَّهم لم يتعارفوا من قبل، موضحاً أنَّ الأحياء القوية المتماسكة تمارس دوراً ثقافياً واجتماعياً وتربوياً وأمنياً لا تقوى على القيام به جهات رسمية. وأوضح أنَّ أولئك تجمعهم المساجد وطرقات الحي ومنتدياته وأسواقه، فالغريب معروف والتربية جماعية، يُربِّي الجار ابن جاره وينصحه عند تقصيره ويسأل عنه عند غيابه ويواسيه عند مصابه ويشاركه أفراحه وأتراحه ويحفظه عند غيبته ويقف معه عند عوزه يتعهده بالزيارة ويسأل عن أخباره، لافتاً إلى أنَّ علاقة الجيرة المتينة هي لحمة قوية وعلاقة متجذرة تشد أسر المجتمع وتسهم في خفض الجريمة والفقر والصراع والخلافات. مناشط إبداعية وشدَّد على أنَّ مراكز التنمية الاجتماعية ومراكز الأحياء ونواديه والمسجد وإمامه وعمدة الحي وكبيره عليهم دور هام في تقوية علاقة الجوار وتعزيزها واستثمار طاقات شباب الحي في مناشط تُفجِّر الإبداع وتُنمِّي المواهب وتحميهم من الفراغ، مُضيفاً أنَّ وزارات الشؤون الاجتماعية والتعليم والشؤون الإسلامية والشؤون البلدية والقروية تبذل ما في وسعها لجعل مركز التنمية ولجنة الحي والمدرسة والمسجد وحدائق الحي وملاعبه مرافق تستثمر فيها تلك الجهود. واقترح أن تُجرى مسابقة على مستوى عالٍ وبتجمّع تلك الوزارات كلّها تسمى الحي المثالي الذي تُفعَّل فيه كل تلك المرافق مجتمعة، المسجد والمدرسة ولجنة التنمية والملاعب والمرافق العامة بمناشط إبداعية كماً ونوعاً. مبادرة جاري ولفت سعد التميمي -مدير مركز التنمية الاجتماعية بمنطقة حائل- إلى أنَّ العلاقات بين الجيران ضعفت منذ سنوات مضت، إلاَّ في بعض المناطق التي لا تزال متمسكة بالعادات والتقاليد، خصوصاً في القرى والهجر، مُضيفاً أنَّ وزاره الشؤون الاجتماعية ممثلة في وكالة الوزارة للتنمية الاجتماعية أطلقت مبادرة "جاري"، التي تهدف الى توثيق الروابط الاجتماعية بين الجيران، مُبيِّناً أنَّ بعض لجان التنمية الاجتماعية التابعة لمركز التنمية الاجتماعية بحائل أنشأت ديوانيات اجتماعية في بعض المحافظات والمدن والقرى. تثقيف المجتمع وشدَّد سعد بن محمد الفياض -مستشار اجتماعي، وخطيب جامع الغدير-، على أهمية تثقيف المجتمع بعظم حق الجار في الاسلام، مع بيان فضل المحبة والتعاون والترابط، وذلك من خلال مؤسسات التربية "المسجد والإعلام والأسرة والجامعة", وقال: "أمر الله وأوصى بالجار خيراً وإحساناً، (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب..الآية)، وفي الحديث الصحيح (لا يؤمن من لا يؤمن جاره بوائقه)، أيّ شروره". وأضاف أنَّ الرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم-، قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم جاره"، مُشيراً إلى أنَّ للجار حقوقا متى ما نشرناها واتصفنا يها توثَّقت العلاقة وزادت المحبة، ففي الحديث الصحيح: "ألا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم"، مؤكداً على أنَّ السلام وإلقاء التحية والبدء بذلك من أقوى ما يُليِّن القلوب ويشرح الصدور ويزيل الضغائن ويُوثِّق الروابط، مُشدِّداً على أهمية تفقّد الجار، خصوصاً في المسجد. توثيق الروابط ودعا الفياض إلى زيارة الجار وعيادته إن كان مريضاً ومواساته وتعزيته إن أصابته مصيبة، إلى جانب قبول دعوته وتفريج كربته إن كان في كربة, وكذلك إيجاد قنوات ينطلقون من خلالها الجيران، كإنشاء مركز اجتماعي للحيّ يهتم بأمور أهل الحيّ الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، إضافةً إلى الاتفاق على دورية يتزاور فيها الجيران، على أن تكون بين المغرب والعشاء، لتكون أقل كُلفة وأضبط للوقت بحيث يتشاورون من خلالها في أمور الحيّ ومصالحه. ونادى بتفعيل دور الإمام والمؤذن وعمدة الحي، إذ إنَّه يمكن من خلالهم جمع كلمة أهل الحيّ وتوثيق الروابط بينهم، إلى جانب إيجاد دورية بين النساء تتبنَّاها زوجة الإمام وتدعو فيها نساء الحيّ، موضحاً أنَّه يمكن من خلالهنَّ أن يتعرَّف الرجال على احتياجات الحيّ وأهله, داعياً لتفعيل دور المسجد، وذلك من خلال المسابقات والاجتماعات وتبادل الزيارات، إلى جانب إيجاد مركز للحيّ يتولى شؤونه بعض أعيان الحيّ، على أن يكون في عضويته العمدة وإمام المسجد ومعلم ورجل أمن وثلاثة اشخاص من سكان الحي تحت إشراف الشؤون الاجتماعية، وكذلك إنشاء لجنة يكون فيها امام المسجد وبعض وجهاء الحيّ لحلّ الخلافات والمنازعات بين الجيران. التواصل بين الجيران يُعزِّز من أمن الحيّ الشؤون الاجتماعية اطلقت عددا من البرامج لتعزيز الروابط الاجتماعية بين الجيران «دورية الحارة» تجمع أهل الحيّ وتوثّق الروابط بينهم