قد يكون اطرف اسم حملته مجلة ادبية عربية هو اسم (إلى آخره) الذي حملته مجلة ادبية اصدرها طلاب في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية. ذلك اننا اعتمدنا على مجلات ادبية تحمل اسماء ادبية، أو اسماء تمت إلى الادب والثقافة بصلة ما. أما (إلى آخره)كاسم لمجلة ادبية عربية تصدر في هذا الزمان، فهو يندرج في باب ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر ببال بشر!. ولكن الاسم لا يمثل الطرافة وحدها، وانما يتضمن قدراً كبيراً من الحقيقة، ان لم نقل انه يقع تماماً في محله. ذلك ان الادب عرف في السنوات الأخيرة، انهياراً لم يعرفه يوماً في تاريخه، بحيث بات فعلاً إلى آخره، اي مما يمكن الاستغناء عنه بسهولة وبحيث لا يخشى احد اذا استغنى عنه حصول هزة أرضية، أو انتشار وباء عالمي كالطاعون قديماً، أو انفلونزا الطيور حديثاً.. فإلى آخره اسم يليق فعلاً بحال الادب اليوم، أي بما وصل اليه من انهيار أو تجاهل، أو انحطاط، حتى في الدوائر التي كان من اختصاصها الحرب عليه أو العناية به، ومنها كليات الآداب في الجامعات العربية. ويأتينا الخبر اليقين هذه المرة من طلاب احدى هذه الكليات الذين لمسوا لمس اليد ما آل اليه حال الادب في كليتهم، وفي بقية كليات الآداب الأخرى، فاطلقوا على مجلة ادبية اصدروها حديثاً اسم (إلى آخره). وحسناً فعلوا في إطلاق هذه التسمية. وحبذا لو خصصوا عدداً، أو ملفاً في عدد، يبحثون فيه اسباب تخلف الأدب، يحوي قصائد في رثاء المغفور اليه تعالى. فالواقع ان الكتابة التي يستدعيها الظرف الآن، هي الكتابة التي يفترض ان تنصب على اسباب بوار هذه المهنة ومدى امكانية ضخ الحيوية والجدة فيها. اما اذا كانت هذه الكتابة بأسلوب الشعر، وبحثت عن موضوع لمعالجته، فليس انسب من اسلوب الرثاء!. يتراجع الأدب ويتقدم العلم لدرجة القول ان طلاب كلية العلوم لو ارادوا ان يصدروا مجلة تنطق باسمهم، أو باسم كليتهم، لما كان هناك افضل من اسم (إلى أوله) أو (إلى الأمام) استئناساً باسم مجلة جيرانهم طلاب كلية الآداب. إلى أوله، لأن كلية العلوم متوجهة إلى المستقبل، في حين ان كلية الآداب هي كلية الماضي ومعه جرير والفرزدق والنقائض والمعلقات والمقامات وسائر الموضوعات التي إن لم يقرأ بعضها قراءة علمية حديثة، أو يدفن بعضها إلى الأبد، فعبثاً نبحث عن قراء لأدبنا القديم، أو عن طلبة جدد لدخول كلية الآداب، ما عدا بالطبع الطلبة غير المقبولين في كليات أخرى بسبب تدني علاماتهم!. قد يقول قائل ان الأدب كان له شأن خطير في الماضي بدليل ان تواريخ بعض الأمم، ومنها أمتنا، حافلة بالادباء، في حين انها كانت فقيرة بالعلماء. فنجيب ان الادب ازدهر عندما لم يكن هناك سوى الادب لعبة رفيعة للعقل. ولكن الادب تراجع لاحقاً عندما تقدم العلم، فبات، اي الادب - نوعاً من «النسيب الفقير» الذي يرد احيانا في بعض تراث السلف. بل اننا نزعم ان الادب لم يكن دائماً صاحب «المقام الرفيع» في تراثنا بدليل العبارة المأثورة: «فلان ادركته حرفة الادب».. فهي عبارة تتضمن رثاءً، أو عزاءً، كما تتضمن تأخراً لحالة شخص تأدب، أو ابتلي، على الاصح، بالأدب.. والعبارة: «فلان ادركته حرفة الادب»، ليست في اعتقادنا لسان حال من اطلقها وحسب، بمقدار ما هي لسان حال قرون واجيال، فهي اذن ضمير الجماعة. اطلق هذه العبارة حكم عام، أو رأي عام نظر بعين الرحمة والرثاء إلى شخص يشقى بعقله، مكانه في هذه الدنيا هو مع كتاب، أو مع صبية صغار يلقنهم إلى جانب العلم مبادئ التربية والسلوك والاخلاق. في حين ينعم الآخرون بما في هذه الدنيا من طيبات ومباهج. فالمعلم، وكل من ادركته حرفة الادب، هو دافع جزية باهظة في هذه الدنيا، وعليه ان يحسد حاله اذا ما تمكن من اعالة نفسه وعائلته، ولم ينم ليلته على الطوى!. وقد بلغ من اشفاق الجماعة، أو الرأي العام، في تراثنا على محترف الادب، حداً جعل الشاعر العربي القديم، يقول: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم ولكن كثيرين ممن ادركتهم حرفة الادب في تاريخنا، وعرفوا شقاء العقل في نعيمه، ودّوا لو عرفوا نعمة شقاوة الجهل، نظراً لما تقدمه هذه الأخيرة من «خدمات» لصاحبها. فالشقاوة لها ايضاً حلاواتها، وذوو العقل كثيراً ما تمنوا لو ادركتهم!. قد يقول قائل ان حرفة الادب في تاريخنا، بالرغم من خشونة العيش التي التصقت بها، كانت تتضمن قدراً عالياً من الايثار والنبل والفروسية. فهي مؤسسة قومية اكثر مما هي حرفة. واكبر دليل على ذلك ان الذي بقي هو امرؤ القيس وليس الذين قتلوا والده أو اغتصبوا ملكه، كما ان الذي بقي هو المتنبي وليس لؤلؤ امير حمص الذي سجنه، أو كافور الاخشيدي الذي لم يحقق له وعداً أو امنية. وهذا كله صحيح ولكن الذي لم تتنبه له مجتمعاتنا القديمة هو معاملة محترف الادب هذا بقدر كبير من الرعاية والكفالة الاجتماعية على النحو الذي تعاملت معه مجتمعات قديمة كالصين واليونان والرومان. فالمثقف، أو محترف الادب، كان في سالف ايامنا بائساً وكان الاهتمام به محدوداً. وكثيراً ما اضطهد أو نكل به. ومن الادلة على ذلك ابن المقفع وابو حيان التوحيدي. فالأول قتل وألقي بأعضائه في النار. اما عندما كان السلطان يلتفت التفاتة رضا إلى الكاتب أو إلى الشاعر، فأقصى ما كان يناله هو منحة مالية، أو وظيفة كاتب في ديوانه. وسواء كان هذا التصوير لحال الادب والادباء في الماضي صحيحاً او غير صحيح، فإن ما يعنينا هو صورة الادب والادباء في زماننا الراهن، وبخاصة صورة الادب في بلادنا ومجتمعاتنا.