كانت الإشارة في المقال السابق إلى المسؤولية الملقاة على عاتق من يتلبس بالثقافة أو تتلبسه، إذ يتجه ذلك إلى ضغط عليه بملابسات الحكمة، والوعي، وسداد التوجيه، وفي الوقت ذاته يحتاج الزاد الثقافي، ووقود التجربة الذي يشحن الذات بوقودها، ويحفزها للتعبير عن وجودها، وعن مكتسباتها، يحتاج ذلك إلى مغامرة، وتجربة، وروح متوقدة، وقابلية للاكتشاف، وذلك يحمل ضمن ما يحمل النزق، والقلق، والتمرد على المألوف، والتوتر مع السائد مما يجعل الملابسات التي يتلبسها المثقف، وتلبس به تتراجع إلى حرارة التجربة، وأتون الفعل، ولحظة الالتقاء بجذوة الاكتشاف، وإزاء أمر كهذا تصمت الحكمة لترمم لها وجوداً جديداً، وتستنسخ مما يتحرك تحتها نسغاً جديداً في هيئتها وحركتها، ويؤول إلى الوعي إلى مساحة تمتد لاحتضان التجربة الجديدة، والوقد الجديد وأما سداد التوجيه فيبقى هبة للوعي الجديد، والحركة الدافعة للمعطي الذي يتقافز على الراهن، والساكن. وهنا تتراجع عن عاتق المثقف المجرب، المغامر، المتقد بلحظة معاقرة الجديد مسؤولية القيادة، والتأطير، وتعميم التجربة.. لأن الثقافة فعل اجتماعي يكونه منجزات فردية، تتحرك من ركام تجربة، وتعانق أفقاً جديداً تظل في حالة تكوُّن واختراق، واكتساب وإقصاء قبل أن تصل إلى لحظة التحقيق والاختيار. ومادام الأمر كذلك.. فأين تكون حاجتنا إلى المثقف؟ بطبيعة الحال.. لا يغفل النمو الثقافي، ولا يهمل كيفية التقبل الثقافي لأي أمر من أمور التنمية الاجتماعية للمجموعة البشرية، لكن لا يرتبط ذلك بتعميم التجربة، وقسر تفاصيلها، وحرارة نزقها، وتوترها على الخيط الدقيق المنتظم لقيادة أمة، أو مجموعة بشرية. فالروائي الذي يكشف الستر، ويستنطق العلاقات، ويرمم فراغات حكاية الحركة البشرية، ليس هو بطبيعة الحال بسبب من هذه القدرة فقط القادر على التنبؤ بحركة السوق، أو تحديد الأوليات التربوية. والشاعر الذي يعنُّ له مكاشفة الغربة، والموت، وخلخلة القوى لانسجام الحياة، ليس هو بسبب من هذه القدرة القادر على إقامة التنبؤات الذهنية، الصادقة، لتحولات العلاقات الدولية من أجل رسم سياسة بلاده في هذا الإطار. وكذلك التقي، الورع، الذي يحفظ ابتهالات التودد، وكلمات التقرب للمولى عز وجل، ليس هو بسبب من هذه القدرة القادر على قيادة إدارة تعليمية لبلوغ أهدافها، والوصول بمن هم في مسؤولية هذه القيادة إلى براءة الذمة. ولا شك أن المغامرة للتجربة الثقافية تزيد في من يتسنم شيئاً من ذلك، انفتاحاً في الأفق، وبحثاً عن المخفي، والمسكوت عنه، وزيادة في التنبؤ.. ولا يتم ذلك إلا بتسرب على مدى زمني يتناسب مع طول التجربة، وعمقها، فيكون ذلك تأهيلاً في تكوين الذات، وفي معاقرة القرار مع حركة الواقع والميدان، وفي استجابته للنسغ الثقافي الذي يسري في حركة المجموعة الشعرية الخاضعة للقرار، ولكنه على كل حال ليس المسؤول عن سلامة المعطيات، وصواب القرار. إذن نكاد نصل إلى أن الثقافة فعل يُرفد القرار، ويستحضر أبعاداً لا ينبغي أن تغيب، لكنّ الثقافة بأودية إبداعها، وسبحات مبدعيها، وعلاقات جديدها بتالدها، ومباشرة التجربة الإبداعية لا يتهيأ لها الفعل القيادي الذي يواكب المتغيرات، والحالات المتجددة، والنوازل الحادثة إذ إن مثل ذلك يعلو بما هو غير ثقافي على الثقافة، فيحجب عنها: التأمل، ومساءلة السائد، وتقدير الاختلاف، ولذة معاقرة التجديد. ومن هنا يأتي التصور بأن تعبير النخب المثقفة عن رأيها، والإفادة من ذلك في صناعة القرار، لا يأتي ذلك من الطاقة الإبداعية، وما تجده هذه الذوات من لذة في معاقرة التجربة، بكل قساوتها، وجبروتها، أو لطفها وحلاوتها.. وإنما يأتي مما ثقفته من تجربة الحياة، وتجربة المعرفة العامة.. لكن هذه التجربة الثقافية لا غنى لأي مجموعة بشرية عنها، لأنها كما أسلفت هي التي تبني قيم الجمال، والخير، ورؤية اللطف في صلادة الحياة.. ومن ثمَّ تكون أحياناً التضحية خطيرة حين نضحي بالمثقف في مسؤوليات القرار اليومي، ونعطله عن معاقرة التجربة الثقافية.