كأني أسمع الآن صوت جدتي وهي توقظ من في البيت أواسط الليل لأنها رأت ليلة القدر بشعاعها النوراني الأبيض وكنا في (غرقة) النوم ذات ليلة شتائية قارسة البرودة لنتقافز مستبشرين وألسنتنا تلجّ بالتسبيح ومهجنا تلهج بالدعاء بعد أن تجمعنا في (ليوان) منزلنا الطيني وكنت أرنو بعيني من خلال (السماوة) نحو شرفة السطح المثلثة (الجصية) أتخيل شكل البراق الذي سيطير بأماني الداعين إلى السماء لعلها تجد القبول في هذه الليلة التي تفوق ألف شهر من العبادة، ارتفعت الهمهمة من شفاه الصغار قبل الكبار «اللهم إنا نسألك الجنة ونعيمها، ونعوذ بك من النار وجحيمها» و«اللهم ارزقني حلالاً طيباً يا أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين» و«اللهم نجحني من رابع ابتدائي جيم» و«اللهم اصلح لي ذريتي» و«اللهم حنن قلب أبي ليشتري لي سيكل 24 بلون».. الخ، كان الكبار في خشوع وجزع أما الصغار فقد أدهشتهم ردود فعل الكبار فلأول مرة يشاهدون دموع أبيهم تترقرق في عينيه كما لأول مرة يرون انكسار والدتهم القاسية القوية وحتى الأخوة الكبار أصحاب السلوك الغامض عادوا أطفالاً يتضرعون إلى الله بدعوات مبهمة لا يمكن حتى التكهن بماهيتها..!. في تلك الليلة بالذات كان تيار الكهرباء (حديث العهد) مقطوعا منذ غروب الشمس وهو كثيراً ما ينقطع آنذاك في أي وقت ودون سابق إنذار، وكانت الغيوم تغطي السماء وقد حجبت القمر خلفها مما أدى إلى انعكاس شعاعه على الغيوم فغدت السماء مشرقة وكأنها مصباح ابيض (فلورسنت) الأمر الذي جعل (باحة) المنزل تضيء بالنور الساقط من الغيوم وهو ما أوحى لجدتي بأنها علامة من علامات ليلة القدر، لاشك بأن الجو كان يوحي بالروحانية (ليلة رمضانية باردة، بقايا من نوم، نور يغطي الفضاء، رائحة طبخ السحور مختلطة برائحة بخور شماغ الوالد، أدعية مختلطة بهمسات خاشعة تذكر بالطائفين حول الكعبة، مهج مؤمنة بريئة) إذاً لاشك بأنها ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر. بدأ نور السماء يخفت قليلاً وبدأت الغيوم تنجلي وظهر القمر باهتا عليه غلالة من عتمة والأفئدة بدأ يغزوها الجزع فبدت ثُلمة صغيرة تغزو قوس القمر فإذا بصوت جريح مفزوع يأتي من (منارة) المسجد الملاصق للمنزل المتطامن (الصلاة جامعة، الصلاة جامعة يرحمكم الله) ليهرع الوالد لصلاة الخسوف ومعه الأخوة الكبار وقلوبهم وجلة من خشية الله، سألت أمي (هل يخسف القمر ليلة القدر)..؟؟ (إسكت.. إسكت ماهو وقته)، هرعت إلى جدتي في مصلاها (ياجدتي يقول لنا مدرس التجويد تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر واليوم لم يمض على رمضان غير جمعتين، هل الليلة هي ليلة القدر بالفعل..؟) قالت (هاه.. وش حنا من رمضان)..؟؟ للماضي عند الصينيين عطر أكثر من عطر خميلة زنبق مزهرة ، واليابانيون يقولون (بعد أن نبلع ننسى الحرق) والعرب تقول (ما أشبه الليلة بالبارحة).