لا يمكنك توقع ردود الناس على تويتر.. فأحياناً تضع مقالاً (متعوباً عليه) فتحظى بتعليقات قليلة، وأحياناً تضع تعليقاً صغيراً وسريعاً فيجد صدى كبيراً وردود فعل غير متوقعة.. وقبل فترة وضعت تعليقاً من النوع الأخير قلت فيه: "حين مات عباس بن فرناس بعد محاولته الطيران اختلف العرب هل موته بهذه الطريقة يعد انتحاراً أم استشهاداً؟ في حين أدرك الغرب أن الطيران أصبح ممكنا".. المدهش؛ أن المعلقين أنفسهم انشغلوا بهذه المسألة (هل مات شهيداً أم منتحراً؟) ولم يهتم أحد بأن محاولة ابن فرناس كسرت حاجز المستحيل وأثبتت إمكانية طيران الإنسان في يوم من الأيام!! والحقيقة أن قصة ابن فرناس نموذج واحد فقط لإبداعات فردية كثيرة ماتت بين العرب.. فالإبداعات (الفردية) حالة طبيعية ومتوقعة في جميع المجتمعات سواء المتقدمة أو المتخلفة.. فالإنسان بطبيعته مخلوق مفكر لا يتوقف عن محاولة إيجاد الحلول وتذليل العقبات سواء كان في مختبرات ناسا أم قرية أفريقية نائية.. التقدم الحقيقي (والصناعي على وجه الخصوص) يأتي بعد ذلك من خلال تبني المجتمع للمبدع نفسه.. هل هو مجتمع مهيأ ومتفتح ومستعد لتبني الأفكار الجديدة وتحويلها لمشروع قومي مفيد، أم مجتمع رجعي متخلف يتخوف من الأفكار النيرة ويقمع أصحابها ومن يحاولون تطبيقها (وهذا بالمناسبة سر تفوق أبناء المجتمعات النامية حين يهاجرون الى الغرب)! لهذا السبب حين تتأمل التراث العلمي للعرب تكتشف أن معظمه أتى نتيجة جهود فردية ماتت في مهدها.. جهود لم تستكمل وتتحول إلى طائرات (بعد محاولة ابن فرناس مثلاً) أو مستحضرات وعقاقير (بفضل تجارب ابن حيان) أو مصانع وآلات (بعد كتاب الحيل النافعة لأبناء موسى بن شاكر).. لم يتبناها المجتمع العربي بقدر تبنيه للموروث الأدبي والاختلاف الفقهي والتصارع المذهبي ففشل بالتالي في تحولها إلى مشروع صناعي أو مادي مفيد بل وانشغل منذ ذلك الوقت في نقاشات بيزنطية اهتمت بتصنيف حامل الرسالة مع تجاهل تام للرسالة نفسها! خذ كمثال آخر موقف ابن تيمية من جابر بن حيان (عالم الكيمياء ومؤسس المنهج التجريبي) حيث قال (في المجلد الأول من فتاويه في مسألة: الكيمياء هل تصح بالعقل أو تجوز بالشرع ص 368): ... وكل ما أنتجه الكيمياويون مضاهاة لخلق الله وهي محرمة.. أما جابر فمجهولٌ لا يُعرف، وليسَ له ذكرٌ بين أهل العلم ولا بين أهل الدين (علما أن ابن حيان وضع أكثر من مئة مؤلف ساهمت في نهضة أوروبا ويعترف به الغرب كمؤسس للمنهج التجريبي الذي قامت عليه النهضة العلمية الحديثة)!! هل تهمنا فعلاً عقيدة ابن حيان أو كيف مات ابن فرناس؟ لماذا نشغل أنفسنا بمسألة غيبية وقضية فردية سيحسمها رب العالمين في الآخرة؟ لماذا لم نطرح أسئلة مماثلة حين ابتكر الأخوان رايت الطائرة أو وضع مندليف الجدول الدوري!؟ في عصرنا الحالي من الطبيعي جداً أن تنقسم أمم العالم إلى فسطاطين نتيجة تفكيرها بطريقتين: أمم تطبق إبداعات أبنائها؛ فصنعت وأنتجت وطارت نحو الفضاء.. وأمم تستورد وتستهلك ومازلت تتساءل هل مات ابن فرناس شهيداً أم منتحراً؟