لماذا يقفز الغرب من المغامرة إلى المستقبل، ونقفز نحن من الخوف إلى الماضي؟!.. سؤال ألح على رأسي وفاقم همومي وأنا أتابع لحظة بلحظة مشهد المغامر النمساوي فيلكس بومجارتنر، وهو يقفز من حافة الكوكب على ارتفاع 39 كيلو مترًا إلى الأرض. أصعب ما في قفزة فيلكس، هو قراره بأن يقفز، لكنه بعد القرار لم يجد مجتمعًا يصمه بالجنون أو الشذوذ، ولا شرطة تلاحقه بتهمة تعكير صفو الأمن العام أو التحريض على المغامرة، بل وجد كيانات علمية واقتصادية وتجارية عملاقة، تدعم طموحه، وتوفر له كل متطلبات الإنجاز.. «فقط خذ أنت القرار واستعد نفسيًا وبدنيًا له، ثم دع الباقي علينا، نحن مؤسسات الحضارة في مجتمعات تُقدِّر الإنجاز وتحرص عليه وتعرف كيف يمكن أن يتحول جنون مغامر إلى مشروع يدر نفعًا وربحًا وعلمًا». هكذا يرد لسان حال المجتمعات المتحضرة على شطحات الخيال ونزعات التمرد المحمود لدى أبنائه. الأصل في حكاية فيلكس، أن التمرد ممكن بل ومطلوب، فرحلة الرجل إلى حافة الكوكب، هي استمرار لرحلة الإنسانية كلها، على مدى تاريخها، من سكنى الكهوف إلى حلم الاستيطان فوق سطح المريخ.. مشهد فيلكس هو بذاته عنوان على التمرد المحمود، فهو تمرد على خوف فطري على الحياة، جبل عليه الإنسان، وولد معه، وعاش به. لولا هذا التمرد ما عرفنا مصباح أديسون الكهربائي، فالرجل وهو يفتش عن المصباح كان يتمرد على الظلام دون أن يلعنه، ولولا هذا التمرد ما عرفنا الطائرات ولا الأقمار الاصطناعية، التي جسدت تمرد الإنسان على حاجزي الزمن والمسافة، ولولا هذا التمرد ما حلق فيلكس عند حافة الكوكب وما امتلك شجاعة القفز إلى المجهول، فالرجل قد صعد عند الحافة متكئًا على آلاف الإنجازات الإنسانية في مجالات الطيران والاتصالات والنقل والتصوير والتقنيات العلمية في القياس والتقييم، باختصار فقد قفز فيلكس متكئًا على إنجازات الإنسانية من ابن النفيس وابن سينا وابن الهيثم وابن فرناس، وحتى جاليليو ونيوتن وأديسون وبراون وبيل جيتس وستيف جوبز....، كل هؤلاء الذين توكأ عليهم فيلكس في قفزته التاريخية (لاحظوا معي أن كلمة «تاريخية» في هذا الموضع ذات نكهة ودلالة ومعنى يختلف كثيرًا عن كل ما عهدناه في عالمنا العربي كلما سمعنا أو قلنا عبارة «تاريخية»)، كل هؤلاء امتلكوا شجاعة التمرد، ووجدوا قيمًا مجتمعية وثقافية تستوعب جنونهم وتحتفي به. عندما تجاسر العالم الأندلسي المسلم «عباس بن فرناس» على محاولة الطيران، اتُهِم بالجنون، وعاش اثني عشر عامًا بعد تجربته الفاشلة يعاني ليس فحسب من آلام عموده الفقري الذي تكسر لدى سقوطه على الأرض، وإنما أيضًا من نظرة المجتمع له، وتعامل الناس معه باعتباره الرجل الذي فقد عقله. حتى يقال إن الرجل قد حوكم على «فعلته» بتهمة التغيير في خلقة الله واعتزل الناس في بيته حتى مات. ولم يجد ابن فرناس من ينصفه من بني دينه، لكن مؤرخًا أمريكيًا يدعى لين هوايت أنصف ابن فرناس في ستينيات القرن الماضي باعتباره ملهمًا لمن جاءوا بعده في عالم الطيران، وقال هوايت: «إن تجربة ابن فرناس لم تشوبها شائبة من خرافة أو خيال، فقد اتصفت بالمنهجية العلمية بكل معاييرها، ومع ذلك فما زال السؤال الذي يشغل العرب منذ تجربة ابن فرناس هو ما إذا كان قد مات شهيدًا أم منتحرًا؟.. فيما انشغل الغرب بعده بالسؤال: هل في الإمكان فعلًا أن نطير؟!.. وحصد فيلكس كل ما أبدعته الحضارة الإنسانية من ثمار استغلها لإنجاز قفزة حضارية وعلمية وإنسانية هائلة.. بينما كان الناس تحته من وزيرستان في باكستان إلى تمبكتو في مالي منشغلين بالبحث عن جواب لأسئلة ما زالت تشغلهم: هل الانتحاريون شهداء؟.. وهل مقاتلو تنظيم القاعدة مجاهدون؟! قبل نحو أسبوعين كتب الزميل سليمان الهتلان في صحيفة «الشرق» متسائلًا: لماذا يتقدمون؟! كان يتحدث عن مشاهداته في اليابان، وعلقت وأنا اقرأ مقاله: بل لماذا نتأخر؟! الإجابة لا تتوقف عند حد علاقة النظام السياسي بالإنجاز العلمي والحضاري والتقني، فهي علاقة مؤكدة، لكنها تتجاوز ذلك إلى بنية العقل وعوامل التحفيز لديه، وهى تكمن في الثقافة ويمكن معالجتها بالتربية، غير أن كل هذا يظل طحنًا في الهواء ما لم نشرع نوافذ التفكير والتعبير الحر عن الذات، فحركة الحضارة الإنسانية هي نتاج تمرد الإنسان على ظروف بيئته المناخية والجغرافية والصحية والغذائية. فيلكس لم يتمرد وحده.. ولم ينجز وحده.. ولم يقفز وحده.. بل إنني قد أزعم أن لدي ألف دليل على أن من قفز من كبسولة تحلق عند حافة الكوكب، لم يكن النمساوي فيلكس بومجارتنر، وإنما الإنسانية كلها بكل ما أنتجته من علوم ومبتكرات، وبكل ما جسده وأبدعه الفلاسفة والمبدعون.. كل هؤلاء كانوا داخل بدلة فيلكس الفضائية حين قفز من ارتفاع 39 كيلو مترًا بعيدًا عن الأرض. [email protected]