إذا كان للبنان فرصة بأن يكون له صوت سماوي آخر فلن يكون غير صوت أميمة الخليل. المطربة التي قيل إنها ولدت لتغني، بدأت الغناء وهي طفلة في أسرة اعتنت مبكراً بموهبتها قبل أن يُعرّفها والدها على مارسيل خليفة وتشترك لاحقاً في فرقة الميادين لتجوب مع الموسيقي اللبناني أقطار العالم، منذ عام 1981، مذهلةً كل من سمع صوتها وقدرتها الغنائية المُبهرة. إنها أميمة الخليل التي غنت بالتزام فن العمالقة، مصدرة في العام 1994 ألبومها الأول (خليني غنيلك) والذي شمل قصائد من شعر محمود درويش وآخرين، بعد أن شكلت مع مارسيل ارتباطاً فنياً مدهشاً امتد زمناً طويلاً، إلا أنه توقف، لتتطور تجرب المطربة اللبنانية، مصدرة عدة ألبومات كان آخرها «زمن 2013» الذي تضمن رثاءً لحالنا العربي الراهن ومن ثم لتقدم تجربتها الكلاسيكية الهامة والمفصلية في ألبوم «مطر 2014» والذي سُجل تسجيلاً حياً مع فرقة الاوركسترا الوطنية الروسية. على هامش مهرجان الشارقة للموسيقى العالمية، التقينا السيدة أميمة خليل لنتحدث عنها وعن الفن كالتزام وموقف منذ أغنياتها عن فلسطين إلى الحب والمجتمع والإنسان دون انحياز مُنفر إلى هذه الجهة أو تلك، كما تخبرنا صاحبة أغنية (تكبر.. أحبك أكبر)، وصولاً إلى تجاربها الجديدة مع زوجها الموسيقي هاني سبليني: * كيف تصفين حضورك في منطقة الخليج العربي؟ - حضور مختصر جداً. منذ زمن طويل رافقت مارسيل خليفة إلى دولة الإمارات تحديداً (1983). عندما جئنا لعمل جولة في الإمارات العربية المتحدة، وذهبنا أيضاً إلى البحرين وقطر والكويت. * هل هو حضور "مهرجاناتي" أكثر؟ - أجل. ونخبوي إلى حد ما وهذا الشيء اكتشفته متأخراً بسبب مواقع التواصل الاجتماعي، بأن لدي متتبعين أكثر من منطقة الخليج العربي وخاصة على تويتر، لذا أظن أن لدي مسؤولية تجاه هذا الجمهور بأن أتواجد أكثر معهم هنا كحفلات وكحضور حي وهو ما أتمناه ولكن لا يمكن لي أن أفرض نفسي، فأنا بطبيعة حضوري أتلقى دعوة من مؤسسة ثقافية ما. * أظن لديك اشتراطات معينة تصرين عليها لإقامة حفل في أي مكان؟ - بالنسبة لي الفن، بجديته، لا بد أن نحافظ عليه. ثمة فوضى كبيرة حولنا، وإذا اتبعنا جميعاً هذه الفوضى في الفنون فسوف تكون الكارثة. في رأيي الفن يجب أن يبقى جاداً. وأن يقدم فن الغناء في أماكن يأتي الإنسان إليها لكي يسمع ويرى وليس ليأكل ويشرب في ذات الوقت وأشياء أخرى تلهيه. هذا شرط أول، والشرط الآخر أن لا يكون الفن مرتبطاً بسياسات صغيرة لا تخدم الفن والإنسان والقيم الكبرى للبشرية. صرنا مقسمين كثيراً ومتباعدين ومتنافرين ومن هنا أصر على أن يكون صوتي جامعاً لكل الناس المتنافرين، ارتكازاً على القيم الإنسانية، لست مع الظلم ولا الديكتاتورية ولا الاحتلال ولدي نبرتي ولهجتي الخاصة في شغلي الذي يمكن لي أن أعبر عن هذا الموقف. لدي أيضاً اشتراطات أخرى فيما يخص شكل حضور الفنان في الحفلة. كيف تكون أجواء حضور الجمهور لي، أن لا يوجد حتى الماء على الطاولات وليس أي شيء آخر، كل شيء يريدونه بعد أن تنتهي الحفلة يفعلونه من عشاء وغيره، ولكن في وقت الغناء، يلتزم المنظمون بشروط ظهوري على المسرح. وهي شروط تحافظ على احترام الفنان وتبقيه على قيمته كفنان. * ماذا عن موقف الفنان إزاء الدمار العربي الحالي، كيف تعاملتِ معه؟ - تعاملت معه وفق طريقتي في ألبوم "زمن" الذي صدر عام "2013". كان لدي موقفٌ رثائي كبير لحالنا وناقدٌ أيضاً في الأغنيات التي بت مسؤولة عنها؛ بعد سنوات من الأغنية التي كان مارسيل مسؤولا عنها بحكم صغر سني، في هذه الأغنية (زمن)، يعنيني كثيراً أن لا يكون النص منفراً أو لأي جهة وهذا ليس رياء ولا "اختبئ وراء خيال أصبعي" كما يقولون باللبناني. هذا قرار وموقف أن يجمع الصوت هؤلاء المتنافرين. القضية الفلسطينية مازالت هي القضية المركزية لدينا، وكل الحروب المتنقلة المنتشرة في منطقتنا سببها قضية الشعب الفلسطيني الذي وضع شعب آخر محله وهو يقتل ويشرد، وهم يحاولوا إذابته بتحريف التاريخ. كل هذه الحروب التي تهدف إبعاد أنظارنا عن فلسطين هي حروب مدروسة، وثمة خطة وخارطة جديدة في الوطن العربي. * حديثك عن التاريخ يحيلنا لأميمة المثقفة والقارئة، كيف استطعتِ أن تشكلي شخصيتك الثقافية وهو ما يفتقر إليه كثير من فناني اليوم؟ - نشأت وتربيت في الأساس على ثقافة (المشروع الفني) والذي جميعنا تربى عليه وهو مشروع (الأخوين رحباني وفيروز) وهذا المشروع فيه عدة عناصر تخدم القيم الإنسانية وتحرض على الجمال والنهوض والحرية. فالانطلاق كان من هذه الذاكرة ثم جاء ارتباطي بفرقة (الميادين) مع مارسيل خليفة كي يثبت هذه الحقيقة. وقتها لاحظت ووعيت وأنا طفلة صغيرة عمري "12"، أن ما أعمله يتقاطع مع التجربة التي كان يقوم بها (الأخوين رحباني) إنسانياً وربما فنياً في بعض المحطات. لا أنحاز سياسياً.. وأغنية «زمن» رثاء لحالنا العربي * إذن هي مسألة وعي؟ - وعي وتربية من البيت. ولاحقاً كان مارسيل، شخصاً حاضناً جداً، وكل الوقت كان همه ماذا أحكي وماذا اقرأ ومع من أكون ومن يؤثر فيّ وكان لديه دائماً هذا الحرص والمسؤولية تجاهي وهذا جميل أحفظه لمارسيل مدى الحياة. ومن ثم عندما بدأت مسيرتي كمحترفة جاءت الأغنية بمعناها وشكلها، لكي تحاكي هذه التنشئة التي انطلقت منها في الفن. بالتأكيد مررت بمطبات وإغراءات كثيرة، بالإعلام والعروض التي تدعوني أن أشتغل مع فلان أو فلان أو أن أقيم حفلاً هنا أو هناك، ورغم ذلك عرفت كيف أن أقاومها كلها. * لكن أليس هذا صعباً جداً، على اعتبار أن الفنان يحتاج إلى شركات إنتاج وإعلام لكي ينتشر؟ - في فرقة الميادين مع مارسيل خليفة طفنا العالم أكثر من مرة، وهذه كانت ورشة وكان مارسيل بالفرقة بمثابة اكتفاء وليس لدي وقت لكي أفكر أن أذهب لمكان آخر. * لنقل ربما في مرحلة لاحقة، إذا أسميناها مرحلة ما بعد مارسيل؟ - لا يوجد شيء اسمه ما بعد مارسيل. * أقصد كأعمالك المنفردة عن مارسيل التي بودي لو تحدثيني أيضاً عن هذه المرحلة؟ - أجل، لاحقاً ربما. في أول التسعينيات أصدر مارسيل البوم بعنوان (تصبحون على وطن) ولم يكن لي فيه حضور أبداً كصوت ولكنني لم أسأل مارسيل أبداً عن هذا الأمر لكنه بالنسبة لي، طُرح كسؤال مع نفسي، لماذا لست موجودة في هذا الألبوم وكانت الصدف أن أتزوج موسيقي وهو هاني سبليني وقلنا لماذا لا نعمل أنا وهاني مع بعضنا وهكذا انطلق عملي المنفرد مع هاني. في تلك الفترة، صدر ألبوم (خليني غنيلك) عام 1994، وهو من امضاء مارسيل خليفة كموسيقى، وهنا مازلنا، مارسيل يختار النصوص ويضع الألحان وأنا فقط أحفظ، بعدها كبرت وشعرت أن الناس تسألني ماذا تفعلين والناس تريد أن تصغي لصوتي وليس بمقدوري أن أعتمد على شخص لديه مشروعه ومشاغله وأفكاره في الحياة التي قد لا تشملني. وقلت إنني أريد أن أكون مسؤولة عن شغلي من الألف إلى الياء. * وهنا بدأت التجربة الأولى مع هاني سبليني؟ - أجل. * ما الفرق الذي لا حظته في العمل بين هاني ومارسيل؟ - ثمة فرق كبير، مع تحفظي على المقارنة. * كتعامل مع مناطق صوت؟ - ليست مناطق صوت. هاني التزم. فهو يحب "قماشة" هذا الصوت ونبرته ونسيجه وإخراجه وهكذا اشتغل هاني من منطلق حبه لهذا الصوت وكيف يصغيه. * هناك من يعتقد أن لايزال ثمة ارتباط أو "وصاية" لمارسيل على شغلك رغم انفصالكما فنياً عن بعض؟ - الحديث عن وصاية من مارسيل هو أمر جميل.. ولكن أرى من المريح لي وله أيضاً، أن أكون مسؤولة عن شغلي ومريح بأن يرى ويكتب لصوتي بشكل آخر. وأن أشتاق لموسيقاه بشكل مختلف. * هل من الممكن أن تلتقيا مجدداً؟ - بالتأكيد. ولدي عمل من تأليف مارسيل سوف أسجله قريباً. لا شيء يدعو لنسيان شخص تقاسمت معه رغيفاً ذات يوم، ما بالك إذا كان فناناً قضيت معه نصف عمرك. * تتفقين معي أن وضع أميمة الخليل في موضع مطربة "نخبة" ليس بالأمر الحسن؟ - فعلاً. أريد لصوتي أن يكون لكل الناس، للنخبة وللعامة، للشباب والشيوخ والأولاد والأطفال وأريد لصوتي أن يصل لكل الناس، لذا لست مطربة نخبة ولا أفضل أن يوضع في مكان محدد. وحتى على مستوى الحضور، أحب أن أكون مع الناس، إن كان في مسرح كبير أو دار أوبرا كما أحب أن أكون أو في مسرح صغير تابع لمؤسسة ثقافية أو مخيم للشباب أو اللاجئين.. المهم أن يصل عملي ولا يبقى. * هل التفت لهذا الأمر متأخراً؟ - لا. دائماً كنت في حفلاتنا أرى مختلف الأعمار. ولكن في الخليج تحديداً، ثمة حالة خاصة، لأن ليس كل بلدان الخليج منفتحة على إقامة الحفلات. وفي الخليج السائد أكثر الحفلات الخاصة وأنا لست من الناس الذين يقيمون حفلات خاصة، ولو أقمتها ستكون لمؤسسات معروفة وبشروط محددة تكتب في العقد. * مؤكدٌ لاحظت من خلال تويتر أن لك جمهوراً كبيراً من السعودية يتابع فنك؟ - بالتأكيد، وهم كثر. * ماذا لمست من خلال هذا التواصل؟ - المحبة. وأنا أحبهم جداً من تعليقاتهم التي أشعر أنها تشبهني وتشبه تربيتي. ثمة رائحة حنان افتقدناه ولم يعد موجوداً في الشرق، وإذا لم نفتقده فنحن على وشك افتقاده. أجل ثمة حنان واحترام يريحني كثيراً في تعليقاتهم على تويتر. مباشرة صرت أعرف من كتابتها أو كتابته أنه من الخليج أو السعودية تحديداً وأذهب لأفتش من أين فيظهر حقاً كما توقعت. * لماذا لم تغني من ألحان الرحابنة؟ - أيام عاصي كنت صغيرة. ولي مع منصور الرحباني موقف في التسعينيات عندما اتصل بي ابنه غدي الرحباني، ليخبرني بأن لدى والده مشروعاً غنائياً يشبه "ساعة وغنية" وهو عبارة عن سكتشات لمطربين ومطربات ويريد لصوتي أن يكون بين هذه الأصوات الموجودة في المشروع وثمة ثلاث مقطوعات ألفها منصور رحباني. سألت غدي متى المشروع، فقال في نيسان أو آذار، لا أذكر، ووقتها كنت حُبلى، وفي الوقت الذي سيبدأ التصوير سأكون في الشهر الثامن، أي أن صوتي لن يكون فيه نفس (اوكسيجين) ولا شكلي يصلح للتصوير، فقلت له لسوء حظي أني لست قادرة على المشاركة في المشروع. فأجاب لسوء حظه، ويبدو أن المشروع لم ينجز. * لا يمكن أن نختم دون الحديث عن تجربة أغنية "مطر" الهامة موسيقياً وصوتياً؟ - تجربة "مطر" فضلاً عن أنها موقعه شعرياً للشاعر بدر شاكر السياب، موقعة موسيقياً من المؤلف اللبناني عبدالله المصري. وعبدالله المصري في هذه التجربة، أخذني. ولم يأخذ مني!. أخذني لمحل، لا أعرف إذا أخذ مني أفضل أن يتحدث هو. لكن من وجهة نظري ومن حبي الكبير لهذا العمل، أقول: نقلني عبدالله المصري خطوة متقدمة في مسيرتي بهذا العمل (مطر). أعتز كثيراً بهذه التجربة التي جعلت تعبيراً جديداً يظهر من صوتي وقيمة جديدة تضاف على القيمة الموجودة في مسيرتي. هذه التجربة مهمة كثيراً وفي تفاصيلها سجلت في موسكو، مع فرقة من فرقة الدولة الروسية. وهي فرقة الوطنية السيمفونية الروسية. وبها كورس وقائد الفرقة من كبارة قادة الفرق السيمفونية الموجودين واسمه فلري بليامسكي وسجلت في استديوهات "موسفيلم" وهي مؤسسة ومدينة كبيرة تابعة للدولة الروسية تشبه هوليود في أمريكا. عبدالله المصري في المقطوعة، كتب صولو بيانو ويريد لرامي خليفة أن يعزفه، فكان معنا رامي في التسجيل. ولا يخفى على أحد أن رامي خليفة عازف بيانو بارع وحضوره كان عاملاً مريحاً بالنسبة لي كوني أعتبر نفسي معه من نفس العائلة كونه ابن مارسيل وفنان لديه تجربة في التسجيلات الحية مع أوركيسترات سيمفونية كثيرة. فحضوره ساعدني لأننا كنا نبضاً واحداً، خصوصاً وأن الفرقة لا تعرف العربية ولا تعرف ماذا أغني. والفضل كله يعود لعبدالله المصري، وعندما طلبت العمل مع عبدالله وهو صديق قديم وكان تفكيري يدور حول أن نشتغل على عمل مقطوعات منفردة لكن عبدالله أخذني إلى هذا المكان والقصيدة الخارقة التي اخترناها والشكل الموسيقي الذي ما كنت أتوقع في يوم من الأيام أن أذهب إلى هذه المنطقة الكلاسيكية البحتة. مع أني اشتغلت اوركسترات مع مارسيل في أحمد العربي ومقطوعات أخرى لكن لم تكن كلاسيكية بهذا الشكل من ثلاث حركات. أحب الذهاب لهذه المناطق والتي يقال لك أنها ليست جماهيرية أو شعبية، ولكن عندما صدر ألبوم "مطر" في لبنان فُقد ولم يعد له وجود والآن بدأنا إصدار نسخة جديدة منه. لذا ثبت أن الجمهور والناس إذا قدمت لهم شيئاً جميلاً ستصغي إليه وتتبناه. وهو عمل لم ينفر أحداً وحتى من ليس في تماس مع الموسيقى الكلاسيكية كان يتصل ويقول: أنا لا أعرف ماذا أسمع ولكنني أسمع شيئاً جميلاً جداً وهذا دليل جميل وسعيد بأن نقوم بتوصيل عمل كلاسيكي للجمهور العربي وفي بلداننا التي فيها مسارح ودور أوبرا، محلها هذا عمل "مطر". الزميل علي سعيد مع الفنانة اللبنانية بعد مشاركتها في مهرجان الشارقة