بدا الطريق المغلل برذاذ المطر يلوح لي كأنه سوف ينتهي حيث وجه الله في الدارين، الوجه الأكثر نورا وألقا وطمأنينة. أقف، مراقبا ذلك الذي يرحل وحده كاملا، جسدا وروحاً، بمشيئة الدخول في الظل. والراحل الكريم، بعد مغادرته الدنيا، يتكئ على عصاه، قابضا على عقفتها متجها الى هناك، حيث لغز الزمن، وذلك العالم الذي لم يختبره بعد، والذي يسعى تجاهه بفرح!! منحني القدر رضاه، ومنحني نعمة الحلم، وأنا أقف هنا أمام تيار الماء الجاري، متأملا المعني العميق لماهية الرحيل. استيقظ لتفهم... الدوام لله وحده... وكل منا يتكئ على عصاه، ويمضي إلى هناك حيث طريقه المغلل بالمطر. تعطينا ظهرك وتمضي!! ايها المسالم، الطيب، واسع الصدر، الحليم. من أحب البشر لوجه الخالق وحده. انت من مسحت بيدك الكريمة على الرؤوس فانزاحت الآلام بغتة وانفرطت بعزمك وجهدك، فكبر الناس بالرضى، وأخضرت الأرض بالنخيل والقمح وفصوص الرمان، وتواصلت المسالك والدروب، وارتفع العمران مدائن، وازدحمت الأسواق بالخير، وحمل العيال الاقلام والقراطيس، وانشدوا مع الصباح. طلع البدر علينا، وانت بحمد الله تقف هناك وحدك، وتتأمل، وترى، وتبتسم. الشاب الفنان، الرسام أحمد زهير يصعد على مدارجه، ناحية أسوار جدة، ويتأمل لوحته التى رسمها على الجدار، وينزل بظلال الرأس الذى ينحنى عازماً على رحيله نحو السماء المفتوحة على الغفران. يسأل الشاب في تعجب: وين رايح! تهبط الفرشاة فتجسد الكتفين، معتنيه بفطرة المشهد، والفطرة فى الصورة تشبه صاحبها: الرمز والدلالة والعلامة والمعنى حيث أمضت برفقة صاحبها تجوس فى الليل ببركتها فتنير الطريق أمام السالك والتائه والقادم من غربته والغريب وقاطع الصحراء، والذى يسأل بشغف: لمن هو الماضي اليوم؟ فسبحان الدائم الباقي، والرحمة تليق بالطيبين. وينشد أحمد كلمات الشاعر سليمان الصقعبي بصفاء روح الرسم: التفت سلم علينا... ماروينا من حنانك ومنك ما أكتفينا. بساطة أسرة، سهلة مثل ماء النبع، فى عمقها، ينيرها الصدق، فاتحة طريقها للقلوب، تسطع بالشعر، وتزدهي بالحنين والشوق والأسى. تجسد الرحيل بحجم ما يرى الرسام!! ضربت اللوحة القلوب، وفتحت طريقا مزهرا نحو الأبدية، ومن تأملها بكت عينه، وأدرك فى لحظته أن للناس الطيبين ذكري عطرة عند الرحيل. قبضت الصورة على القلوب، فعبرت الجغرافيا بحنانها وعفويتها، وتحولت بركة الفن والصدق إلى مجمع للعواطف. ورأها الناس فى شارع الأزهر، وزقاق أم الغلام، وميدان الحسين، وأزقة السيدة زينب، وعلى شطآن النيل فى قري مصر، وفي ساحات المساجد، ومع أعطاف المعزين في سرادقات العزاء يقدمونه لمن وقف يوما فى ساحة الرجال يصبح: لن تسقط مصر يوما. أحمد يا زهير قبضت على لحظة من الصدق، فرسمت وجسدت، ورتلت الشعر، فبكى الناس ثم قرأوا الفاتحة.