كي تنشئ بيئة بحثية ناجحة (نتحدث هنا عن البحث العلمي التطبيقي) يجب عليك أولاً أن تؤسس لنظام يدعمها. والنظام هنا يكون مرناً وبعيداً عن البيروقراطية. والنظام هنا يجب أن يكون متجدداً يواكب تجدد البحث العلمي التطبيقي وتجدد تقنياته وتشعب اتجاهاته. لا يمكنك أن تتوقع من بيئة أكاديمية يقضي فيها الطالب جل وقته بمشاهدة التجربة المعملية بدلاً من تنفيذها بنفسه أن تخرج طلبة ملمين بالتقنيات الحديثة في مجال تخصصهم لديهم مهارات فنية متفوقة وعالية. ولا يمكنك أن تتوقع من بيئة أكاديمية لا تتفهم أهمية التمويل البحثي المرن لشراء الأجهزة والمواد الكيميائية ولا تتبنى نظاماً مرناً يعجل بوصول هذه الأساسيات أن تكثف إنتاجية الأبحاث داخل أسوارها. ولا تتوقع من بيئة أكاديمية لا تدرك أهمية وجود الأيدي الفنية ولا تملك إدارات صيانة خاصة بالأجهزة المعلمية أن تستمر في إنتاجيتها بدون تعطيل، لأن الأجهزة مالم يتم صيانتها واستخدامها بشكل صحيح ستتحول لمقتينات شكلية معروضة. إذاً كي تخرج من حالة الركود الإنتاجي لابد أن تؤسس بيئة صحية منتجة. والبيئة الصحية هذه تكون بيئة منفتحة تستقبل كل المهتمين والقادرين على إثراء البحث العلمي بيئة تعترف بدور كل مساهم بغض النظر عن درجته العلمية. والبيئة الصحية أيضاً تكون حاسة النقد العلمي الذاتي داخل منظومتها عالية فهي تراقب وتقيم إنتاجية منسوبيها من خلال "المجلس البحثي العلمي" الذي يجيز هذه الأبحاث، كما تضع معايير جودة للنشر تنظر لنوعية البحث والمخرجات المتوقعة منه، كما ذكرنا في المقال السابق كما تنظر أيضا لدور البحث في نقل وتطوين التقنية في القسم الأكاديمي لأن كل المعايير التقييمة لن تكون مهمة فيما لو أنجز البحث في مؤسسة أخرى وكانت مساهمة القسم الأكاديمي أو الباحث بسيطة. عند تقييم الإنتاجية الأكاديمية يتم النظر للصورة كاملة بحيث لا تنحاز للتراكم العددي البحثي بدون أن تقيم دور الباحث والقسم الأكاديمي أو المجموعة البحثية التي يمثلها ونوعية مشاركته ومساهمتها في إثراء البيئة البحثية داخل المؤسسة الأكاديمية وتدريب الطلبة والطالبات وتأسيس قاعدة باحثين محلية. وهذا لن يتحقق إلا بتصحيح المفاهيم عن البحث العلمي ليخرج من دائرة الإنجاز الشخصي لتحقيق ترقية علمية إلى توطين التقنية وتأسيس بيئة معرفية ستختفي كلمة "أول من" وتختفي اداعاءات الأسبقية التسويقية التي تستخدم للاستهلاك الإعلامي. وإذا صلحت المفاهيم ستختفي الأبواب المغلقة التي تضم معامل ذات أجهزة يسمع بها الطالب ولا يراها ولا يستخدمها إلا أشخاص محدودون وكأنها ملكية خاصة وستتحول هذه المعامل إلى مساحة مشتركة تتبادل فيها الخبرات ويتعاون فيها الباحثون، ستتخلص المؤسسات الأكاديمية من الاعتمادية على باحثين وفنيين من دول أخرى وتسعى لتأسيس وتأهيل خريجي المؤسسة الأكاديمية ليخدموا فيها بعيداً عن عنصرية الألقاب العلمية، وستنشئ بيئة بحثية تعتمد على التعاون "الندي" وليس التعاون"الاعتمادي" بيئة تخدم الطالب والباحث لينتجا بعيداً عن الضغوط والإحباطات.