رحل الخرندا؛ ودعه حشدٌ من فنانين ومثقفين وعدد من الأهل والأقارب والاصدقاء، إلى مثواه الأخير في مدينة سيهات. الفنان الشعبي الشرقاوي توفي الأسبوع الماضي، وقد ووري جثمانه الثرى بعد صراع طويل ومرير مع المرض، ليدفن عن عمر يناهز ال"82" وفق أقرب تقدير. وينتمي الفنان الخرندا إلى ما يمكن تسميته بالفن الشعبي الشفهي، إذ أن الخرندا ورغم تأليفه وتليحنه للعديد من الأغنيات الشعبية إلا أنه لم يهتم بتسجيل أغنياته في اسطوانات كما فعل صديقه ومجايله الفنان طاهر الأحسائي. وكان مجلس الخرندا اشتهر حتى بداية الألفية، كواحد من بيوتات الطرب الشعبي الفريدة في المنطقة الشرقية، والتي تحتفي أسبوعياً بتقديم ألوان شهيرة من فنون الصوت والفجري والخبيتي وغيرها من الايقاعات التي كان يهتم بها الفنان الراحل وبطريقة أدائها. ولعل أكثر ما يميز علي الخرندا بأنه كان متصالحاً مع نفسه، تماما كجيله الرائد في الفن الشعبي، إذ أن إيمان الخرندا بفطرية الفن لم يتزحزح حتى آخر يوم في حياته خلافاً لبعض الفنانين المشهورين والذين دخلوا الفن من أجل الشهرة وكسب المال والاعجاب، في حين أن كثيراً من هؤلاء، لا يؤمن بالفن كقيمة انسانية خالصة. وهنا نتذكر تلك العبارة التي قالها لنا الفنان علي خرندا، في لقاء موثق أجريناه معه ونشر في ملحق "الرياض - مساحة زمنية"، أوصى حينها بأن يدفن معه عوده والكمنجة وحتى "المراويس/الايقاعات". صحيح أن هذه الوصية لم يلتفت إليها أحد فضلاً عن أنها لم تنفذ مساء يوم دفنه "الأحد الماضي"، إلا أن لها مدلولات ثقافية تنم عن شخصية عفوية، نقية، تشبه زمنها الأشد براءة تجاه الفنون. مما؛ نتذكره من ذلك اللقاء المنشور في حلقتين بتاريخ "10 يونيو 2011" أن الخرندا رغم مرضه، أحضر عوده القديم وغنى متحديا المرض ببحة صوته الحانية؛ مصرا على توليف عوده بنفسه رغم فقدانه إحدى عينيه؛ عازفا ومغنيا أغنيات لطالما اشتهرت بين جمهوره القريب.."مدلول المعاني" و "ظبي سيهات" و "مالي سعه فيج" وغيرها من الألحان التي "خرش" معها "أبو عبدالله"، العود؛ مثبتا قدرته على استعادة لياقته الموسيقية رغم طول انقطاع طويل. أما عن بداياته، ففي العام "1948" تقريبا، عمل الفنان علي خرندا في شركة ارامكو تحت إشراف موظف "أمريكي"؛ كان لطيفا معه غاية اللطف؛ هكذا يتذكره بعد أكثر من ستين عاما ولكنْ أيضا ثمة شيءٌ آخر يتذكره مطربنا الشعبي.. إنها آلة الجيتار التي لمحها في بيت هذا "الأميركي"، مستذكراً "أن هذه الآلة الغربية لفتت انتباهي، فأمسكت بها وحركت أوتارها الناعمة، فأعجبت وبأنغامها أيما إعجاب. مضيفا " كان الأمريكي يغني ويعزف على آلة الجيتار وأنا أصغي إليه في وقت الفراغ وهو ما لاحظه مني وبدأ يسألني عما إذا تولعت بهذه الموسيقى، فأجبته " بصراحة نعم"، ثم فاجأني بالقول "خذ هذا الجتار فهو لك". كما كان لولادة فرقة سيهات للطرب الشعبي والتي عرفت أيضا بفرقة "المشامع"؛ دور كبير في إبراز شخصية الخرندا الفنية؛ عندما اكتشفت الفرقة قدراته الصوتية المؤهلة للغناء ودعته للغناء ضمن الفرقة التي اشتهرت مبكراً في المنطقة الشرقية بوصفها فرقة جامعة لعموم أبناء الشرقية من الدمام حتى صفوى مروراً بالقطيف وسيهات. ومن بين أشهر أغنيات "الخرندا" تأتي أغنية "سيهات فيها ظبي"، وهي أغنية تجسد ذروة الإعلان الغزلي في الطرب الشعبي، المجاهر بواقعية عارية في الغرام، عبر تسميات الأشياء كما هي دون محافظة أو إخفاء أو تردد، حيث نصغي إلى الأغنية التي غناها الخرندا مجددا ل"الرياض" ويتغزل فيها بفتاة من "ديرته"، سارداً تفاصيل وصفية غزلية فيها، إذ يقول: " سيهات فيها ظبي.. حسنه سباني سبي.. لو يامر لو يبي.. لفديه حتى الفؤاد/ العيون سود وساع.. لوشافها السبع ضاع.. تسبي فؤاده سبي/ الصدر بساتان فيه..رمان توه نبت/ وبشوف عيني ثبت/..ارما بقلبي سهام". ولم يغني الخرندا هذه الأغنية داخل مدينته سيهات وحسب وإنما سافر بها إلى الإماراتوالبحرين والكويت حيث كان يغني خلال السبعينات والثمانينات في مجالس شيوخ وشخصيات اجتماعية في البحرين وعدد من دول الخليج العربي. "مساحة زمنية". وبرحيل الخرندا تكون سيهات والمنطقة الشرقية ودعت فناناً شعبياً لم يسع يوماً للشهرة أو حب الظهور، فكان مغموراً بين تسجلاته وأصدقائه وجمهوره الصغير والحميم، لكنه بلا شك.! كان مثالاً للفنان الصادق والمخلص في موقفه الواضح والصريح في الدافع عن ما يقوم به، حيث نتذكر رده على دعوة رجل الدين الراحل الشيخ عبدالمجيد أبو المكارم له بأن يترك الغناء، قائلا: "قلت للشيخ مجيد انت مطوع وانا مغني وكل واحد في مجاله"!. قبل رحيله أعاد الخرندا ذكرياته وبعضاً من أغانيه